قراءة في التقرير الاقتصادي والاجتماعي للمؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد

 مشروع التقرير الاقتصادي والاجتماعي الذي أقره المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الموحد جاء متناغماً ومتطابقاً مع طموحات وتطلعات شريحة واسعة من الشعب السوري بما تضمنه من انطلاقة نقدية شاملة، وبحرصه الواعي والمتضمن معالجة آثار هذه الأزمة التي عصفت بالشعب السوري ونتائجها.

في البدء صيغ التقرير مبتعداً عن دغدغة المشاعر، ونأى عن النهج الديماغوجي، وجاء تحليل الواقع الاقتصادي والاجتماعي قبل اجتياح الأزمة الخانقة على مدى جغرافيتها متوافقاً بتحليل ديالكتيكي مشبع بالإقناع.

لكن قبل الولوج في تمحيص ما طرحه التقرير من أسباب أود أن أضيف، أسباباً أراها جوهرية، فالجماهير الكادحة العربية عموماً وفي بلدان العالم الثالث خصوصاً في عزلة عن الفكر الثوري وتقتات على فضلات الفكر البرجوازي، ولن يذهلنا ما نلمسه في الساحة العربية من الفقر في الفكر والتنظيم الثوريين، فالمنظومة الماركسية علمتنا أنه ليس ثمة حركة ثورية دون نظرية ثورية، ولنا شاهد في تاريخ جميع البلاد على أن الطبقة العاملة لا تستطيع أن تكتسب بقواها الخاصة غير الوعي العفوي.

إذاً لابد من يقظة لجماهير العمال والفلاحين، وشبيبة ثورية مسلحة بالنظرية العلمية تتحرق رغبة في التقرب من العمال والاندماج بهم فتتلعم من واقعهم وخبراتهم وتسقيهم الوعي العلمي لمصالحهم الطبقية ثم تسير أخيراً في طليعتهم إلى قلب النظام البرجوازي وبناء المجتمع الاشتراكي. ليست طعنات الأعداء التي يسددونها لنا من الخارج بأشد خطراً وألماً من أن نستهتر بأنفسنا وننساق خلف سذاجة متسترة أحياناً وراء شعارات (يسارية)، ومن الموجع حقاً أن نتعلم عن ظهر قلب ونحفظ شعارات أكثر بكثير مما نتأمل فيها، لنعرف كل ما يحيط بنا من الظروف والعوامل ونتمكن بالتالي من السير في الطريق العلمي المنظم الذي يضمن لنا الانتصار على أنفسنا وعدونا.

إن الأوضاع الدموية والتدمير المنظم للبنى التحتية في سورية هي إحدى نتائج غياب المنظومة الثورية القادرة على ضبط إيقاع الخلل في النهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي في سورية. وبالتالي لا أجد عيباً في تقطير الوعي الثوري لنأخذه قطرة قطرة كي لا تتقيأه معدتنا الصغيرة، فهي لا تزال عاجزة عن هضمه أو استساغته.

نحن نعيش في مجتمع تمزقه التناقضات الطبقية، فلا يمكن أن توجد أيديولوجية خارج الطبقات أو فوق الطبقات، ولذا فإن كل انتقاص من الأيديولوجية الاشتراكية وكل ابتعاد عنها إنما هو بمثابة المسمار الذي يمكّن من توطيد أركان البرجوازية ونلمس مصداقية هذه المقولة في فقرات من التقرير.لذلك نلمس بحسّنا الطبقي تباعد المصالح بين البرجوازية القابضة على وسائل الإنتاج وكل الشغيلة في سورية، بما يخدم في الأساس الشريحة المتنفذة، التي صاغت خطة النمو ونثني على الصيغة الواردة في التقرير التي تنبض بالصدق:

(لقد تحقق معظم ذلك النمو في القطاعات الخدمية المالية والعقارية وغيرها على حساب نمو القطاعات الإنتاجية المادية المتمثلة بالزراعة والصناعة).

وهذا يقودنا مرة ثانية إلى القول بأن الصدام الدامي والعنيف بين الطبقات الأساسية في المجتمع قد كشف بأن القوى الاجتماعية تتصارع في التاريخ، وأن الذي يحرك تطور المجتمع ليست إرادة الأفراد بل الصدام والصراع بين الطبقات الاجتماعية الهائلة.إن سوء الإمساك بدفة الاقتصاد السوري أدى إلى ارتفاع وتيرة البطالة في البلاد مما نتج عنه أيضاً انتشار الجريمة وتفشي الرذيلة واتساع رقعة الفقر، وهذا ما أوضحه جلياً.

ببساطة أقول إن تراجع الدولة عن دورها الفاعل في الإمساك بقوة بزمام المبادأة لمنع هذا الانحدار الصدئ واجتثاث بذور الفساد من تربته الرديئة والمالحة، يدفع إلى التنبؤ بالمستقبل قاتماً وموحشاً. نحن لسنا بحاجة إلى التأكيد، بصرف النظر عن كل الاعتبارات، أن الفساد يستطيع أن ينمو ويترعرع من خلال مصادرة حق المواطن في ممارسة الديمقراطية وتعطيل مفاعيلها، فتتفشى مظاهر الفساد ومظاهر النفاق والمحسوبية والفئوية وغيرها مما يبرز معاول الهدم في المجتمع السوري.

لقد كان التقرير أكثر وضوحاً وأسطع بياناً عندما تناول هذا الجانب في تفرّد الحزب الشيوعي السوري الموحد، عندما عكف على دراسة بروز هذه الظواهر واستطاع الإمساك بها وبمهارة الطبيب المتمرس في الإمساك بالمبضع لتشريح الجسم السوري المعتل، فقد شخص الداء ووضع العلاج الشافي عندما قال صائباً: (منذ بدء التحول إلى سياسات الانفتاح الاقتصادي والتراجع التدريجي في دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي الذي بدأ عام 2000 والذي تجلى بشكل صارخ منذ عام 2005 نبّه الحزب الشيوعي السوري الموحد مراراً وتكراراً، من خلال مواقفه في مختلف المواقع والمناسبات، إلى ضرورة تطوير الجانب الديمقراطي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد بما يتناسب مع الموقف السياسي الوطني المتقدم، حتى لا يكون هذا الجانب الخاصرة الضعيفة التي يمكن النفاذ منها للنيل من موقف سورية الوطني والسياسي، إلا أن السلطات المعنية لم تُعِرْ هذه المسألة الهامة والدقيقة الاهتمام المطلوب.

لقد ألقت هذه الأزمة بظلالها الثقيلة على مكونات الشعب السوري، ويندرج تحت هذا العبء تراجع الإنتاج الزراعي وما رافقه من ارتفاع في المواد الأولية التي أثقلت كاهل المزارع السوري. والملحوظ في هذا الاتجاه الارتفاع غير المسبوق  لأسعار مادة المازوت وإغماض العين عن معالجة هذه المشكلة التي تسببت بارتفاع الأسعار، ونلتمس للفلاح العذر في ذلك، إذا وقفنا على الحقيقة القائلة بأن أجرة حمولة السيارة، القادمة من حوران قبل الأزمة كانت تتراوح بين 2500 و3000 ل.س فقط، أما في أثناء هذه الأزمة فإن أجرة حمولة السيارة تتراوح ما بين 70 و75 ألف ليرة سورية. والمتسبب في هذا الوضع هي قوى نافذة تتخندق مع العدو، فكلاهما قاتل للمواطن السوري، فالأول يفتح النار على الوطن، والثاني يتكفل بتجويعه، ويقودهم ظل فاسد يفرد جناحيه شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً.

ومهما يكن فإننا مازلنا نتسلح بالأمل المشرق والغد الساطع عندما تجتاز سورية محنتها وتنهض من تحت الركام ترفع راية الانتصار على أعدائها، وتبدأ معركة صراع المتناقضات للتطور الذي يتضمن عاملاً قانونياً إلزامياً هو قانون النفي، فالتبدلات النوعية تعني نفي النوعية القديمة، فالطبقة العاملة ونضالها هما نفي لوجود البرجوازية والنظام البرجوازي كحامل لأسلوب الإنتاج الرأسمالي ويتحقق التغيير بموت أحدهما وظفر الآخر.

وقد أحسن بيلنسكي عندما قال: (المجتمع من دون عامل النفي يتحول إلى مستنقع راكد)، فهذا النفي يوطد نظاماً اجتماعياً جديداً، أقدر على الحياة بشكل لا يقاس وعلى خلق إمكانيات تطور لا حد لها.

العدد 1104 - 24/4/2024