رسالة إلى …!

كم مرّة في العمر يحس الإنسان رغبة عارمة في الانطلاق.؟

يحطّم في شرارة انطلاقه كل القيم التي تربّت فيه، ويدمّر شوط عمر يعلم الله كم يحمل من سنوات بحلوها ومرّها.. بعذاباتها وسعادتها.. بطموحاتها وإحباطاتها..

سنوات في عمر المرء يبنيها حجراً فوق حجر، وهو لا يدري أنها لا تكف وهي تشتد وترتفع عن تضييق القيد حول رقبته ويديه.. ثم تمضي أكثر فتكبّل قلبه..

سنوات وهو يحاول أن يرسم وهو يعبر في مسالكها دروب مستقبله.. سعادته.. أمنياته..

بيت.. زوجة.. أسرة.. أطفال.. أولاد.. أحفاد.. مكانة.. قيمة..

والسنوات تمضي وتمضي لا تعبأ به.. تمدّ له لسانها وتسخر من رسوماته لأنها تعرف أنه لن يصل ولو عبر لحظة إلى تحقيق خط ملوّن واحد في لوحة حياته وستبقيها بيضاء أو سوداء.. تُبعد عنها أصابعه، وتدفعه دفعاً ليرضى!

يدفن ذاته تحت عتبات الآخرين.. ويرضى!

فهل يرضى؟

هو المجهول أيتها الغالية يقود خطواتنا المحمولة على أشرعة غيبية عبر بحور لا نعلم على أي شاطئ ترسو بنا..؟ ولحظة ترسو نحسب أننا بإرادتنا أبحرنا وبإرادتنا رسونا..

فهل حقّاً نحن أبحرنا ونحن رسونا..؟

لماذا إذن لا نحمل جراحنا ونقذف بها إلى وديان النسيان، ثم نشدّ الخطوات إلى رغباتنا؟

لماذا إذن نجلد أجسادنا بسياط غبيّة لن تُفلتنا من عذاباتنا لحظة، ثم نستجدي القدر ليمنّ علينا بلحظة صفاء..؟

لن نأخذها، ولن يعطيناها أحد..

وهل تحسبين روحي لا تتوق إليك في كل ثانية أحسّها تهرب من عمري وعمرك.. تفلت من بين أصابعنا ولا تستقر في مكان.. تضيع في زحمة السراب فنبكيها.. نرجوها كي تعود لنعود معها إلى حسابات جديدة.. فلا تعود..

وكل قطرة دم تجري في شراييني تذوب كلما أحسّت أنها تقترب من شرايينك أكثر فأكثر.. تقفز من بين خفقات قلبي خفقة تعلن رغبتي وضعفي فأخاف أن يصل صوتها إليك..

لماذا يتملّكني الخوف كلما أطلت النظر إلى عينيك الطالعة من بين حروفك؟

ماذا أفعل؟

أأنتظر القدر..؟ أم أنتظر القضاء؟

ترى أيهما أقرب؟

لا تسأليني قوّة تتعلّقين على طرفها، فأنا لا أملك غير الضعف والضعف والضعف..!

أيتها التي لم يبق لك إلا الانتظار.. أنا مثلك لم يبق لي غير الانتظار..!

ماذا تنتظرين من صنم ماتت أطرافه، وتمزّقت خلاياه، وتناثرت على مساحة الكون آلامه؟!

الليل طويل.. طويل لا أرى وراءه نهار.. لا أرى وراءه غير ظلام يجر ظلاماً..

فهل تُرى ملّني الانتظار.. أم مللت منه؟

وأنت.. أيتها السابحة في بحر طهرك.. وبوحك الصامت.. متى ترسو أشرعتك؟

هل قلتُ لك يوماً بأنني أسرقك منكِ في ساعات خلوتي، وأمضي معك بعيداً إلى دنيا ليس فيها سوانا

ثم لا أعرف إلى أين يصل الشوق بي وبك..؟

هي ساعات أملكك فيها وحدي..

وأنت في برجك الأبيض النقيّ على شرفة الانتظار..

أقترب فيها وأنت بين يديّ من حالتي الإنسانية، أو الشيطانية؟

أرسمك كيف أشاء.. وألمسك كيف أشاء.. وأحبك كيف أشاء..!

أملككِ طيفاً.. حلماً.. طيراً صاخباً يحطّ على طرف نافذتي وحين أمدّ له يدي.. يطير!

حياتي.. لا تتركيني أنتظر كلمة.. همسة.. خفقة أسمعها على البعد.. هي المركب الذي يأخذني إلى دنيا روحك..!

فهلاّ فعلتِ.. هلاّ فعلتِ.. يا عمري..!

العدد 1107 - 22/5/2024