الجلاء عيد الحرية والكرامة والسيادة

تأتي الذكرى التاسعة والستون لجلاء آخر جندي فرنسي عن بلادنا (1946 – 2015)، وما يزال الإرهابيون يتسللون إلى سورية من المعابر الحدودية التركية والأردنية.. وما يزال التحالف الدولي والإقليمي المعادي يقدّم الدعم المادي والعسكري واللوجستي والسياسي للمسلحين القادمين من ثلاث وثمانين دولة، وفتح معسكرات التدريب لما يسمونه بـ (المعارضة المسلحة المعتدلة) في الأردن ودول الخليج وتركيا تحت شعار (إسقاط الدولة السورية).

إن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا تطمح إلى السيطرة على الثروات النفطية والباطنية لسورية والعراق وليبيا واليمن وغيرها، وإلى تفتيت الدول العربية ونشر الفتنة الطائفية والإثنية، وتحطيم البنى التحتية، واستنزاف القوات المسلحة، وتركيع المنطقة لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.وأن أمريكا وأوربا والدول العربية الرجعية، تصنع الأزمات في مراكز الاستخبارات وفي غرف العمليات السرية ومراكز البحوث ضد الشعوب العربية.

تمرّ ذكرى الجلاء هذا العام وسورية تجتاز عتبة أزمة معقدة، مركبة، دخلت عامها الخامس. وما يجري اليوم من سياسة التدمير والقتل وقطع الرؤوس ونشر الفكر الظلامي، يذكرنا بسياسة الاستعمار التركي والغربي قبل عقود وقرون.. هذا الاستعمار الذي استخدم مختلف الأساليب الوحشية، قد فشل في إخماد الثورات الوطنية التحررية وفي إطفاء نيران حقد الشعب السوري الذي ضحّى بألوف الشهداء في معارك التحرر والاستقلال والجلاء والسيادة.

لقد صمد الشعب السوري وجيشنا الوطني الباسل طيلة العقود الماضية، وما يزال يقاوم ويسجل البطولات ضد عشرات الدول الحاقدة على سورية، ويقدم الشهداء ويحقق الهزيمة للإرهابيين التكفيريين  بتسمياتهم المتعددة وشعاراتهم المتعفنة المحمولة من مئات السنين على أجنحة الجهل والتخلف.

إن سياسة العداء لسورية ليست ابنة اليوم، بل تمتد لقرون ماضية وتستمر بوجوه مختلفة. وإذا نظرنا إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي في النصف الأول من القرن العشرين، نقرأ في صفحات التاريخ كيف كانت فرنسا تسرق قوت الشعب السوري، وكيف كان كل شيء تحت إشراف البرجوازية الفرنسية، وحتى مالية البلاد كانت تدار من قبل المصارف الفرنسية وكذلك احتكار الأراضي الزراعية واستثمارها.

وما أن تخلصت سورية من حكم المماليك والاستعمار العثماني حتى جاء الاستعمار الفرنسي. ثم حققت الاستقلال بنضال الشعب السوري والجيش الوطني حديث التكوين، وتحولت من بلد متخلف اقتصادياً وسياسياً وثقافياً ونُهبت ثرواته الوطنية، إلى وطن يتسع  لجميع المكونات الاجتماعية والإثنية.. إلى سورية المتطورة الناهضة المتقدمة.

ولم تتوقف دماء الشهداء عن الجريان.. ولم تجف تربة الوطن من دماء شهداء السادس من أيار 1916 ، وشهداء معارك الجلاء في سهول سورية وقراها ومدنها في الجهات الأربع. وظلت صور السفاح جمال باشا والجنرالات الفرنسيين تعبر عن الظلم والقهر والعبودية كأسياد جرّوا خلفهم أذيال الخيبة والعار وهزموا أذلاء، رغم استخدامهم كل أشكال القتل والإبادة والوحشية.

لقد أشعلت مقررات مؤتمر سان ريمو 1920 نيران الغضب والحقد، وتصلّب المناضلون وتعززت الروح الوطنية، وشكل الملك فيصل حكومة، تقلَّد يوسف العظمة فيها وزارة الدفاع. وقدّمت هذه الحكومة الدعم المادي والسلاح للثوار، ووثّقت العلاقة معهم، وازدادت فعالية التنسيق أيضاً، ثم أصدرت الحكومة قانوناً يفرض التجنيد الإجباري كخطوة لتأسيس الجيش الوطني.

وتعود بنا الذاكرة إلى إنذار غورو المشؤوم، وإلى ما يجري اليوم من حصار اقتصادي ضد الشعب السوري وتجويعه والتآمر عليه، في ظل إرهاب دولي لا مثيل له في تاريخ البشرية، وكأن التاريخ يعيد نفسه بأشكال أكثر تقنية وحداثة. ومن جهة ثانية يشهد التاريخ التحرري والنضالي الوطني السوري، أن الجيوش الاستعمارية التي تفوق الجيش السوري الوليد عدداً وعتاداً، قد هُزمت ورحل آخر جندي فرنسي في السابع عشر من نيسان عام 1946. رغم أنها تمكنت من قمع الثورة السورية الكبرى ومطاردة الثوار واحتلال المدن والقرى السورية وإشعال الحرائق بقذائف الطائرات والدبابات، وإرغام الثوار على اللجوء إلى الأردن ومصر وفلسطين، إلاَّ أن عام 1936 كان عام الذروة في مهاجمة الشرطة التابعة للاحتلال الفرنسي لمقر حزب الكتلة الوطنية في حلب. واحتلت المظاهرات ساحات المدن لمدة ستين يوماً في الذكرى الأربعين لرحيل قائد ثورة جبل الزاوية إبراهيم هنانو.

وساهم الشيوعيون السوريون منذ بداية تأسيس حزبهم عام 1924 بالنضال ضد الاستعمار الفرنسي، وقادوا المظاهرات الجماهيرية من أجل الجلاء، حتى أن شعبنا أطلق على الحزب الشيوعي (حزب الجلاء)، وكان الرفيق طيب شربك أحد شهداء الحزب أثناء قصف الفرنسيين للبرلمان السوري

وفي هذه المناسبة الغالية على قلوب السوريين، لا بدّ من رفع راية الاعتزاز بشعبنا وجيشنا الباسل الذي يصدّ قوافل الظلاميين والمسلحين الإرهابيين ويحقق الهزيمة لهم في عشرات المعارك.. ولا بد من الانحناء لأرواح آلاف الشهداء الذين روت دماؤهم تراب الوطن وغذّت ينابيع الحرية والكرامة.. ونقول بصوت عال: عاش الجلاء وعاشت سورية حرة، كريمة، سيدة..!

 

(*) نشرت بالتزامن مع (الأسبوع الأدبي).

العدد 1105 - 01/5/2024