عصر تدمير البيئة

منذ فجر التاريخ حتى الآن مرت على البشرية عصور وعصور، من العصور الحجرية إلى العصور الحديدية والبرونزية وغيرها من عصور تنسب إلى مدى تطور الإنسان وعلاقته بالطبيعة، إلى عصور الكهوف المأوى الأول للإنسان، إلى عصور الاكتشافات الجغرافية وتقسيم الكرة الأرضية إلى قارات، إلى عصور الاكتشافات العلمية والبراهين الرياضية وصولاً إلى عصر ثورة الاتصالات اليوم، هذه الثورة التي كانت نتيجة لتعاظم تطور قوى الرأسمال المالي وعبوره الحدود الوطنية والقارية، وخاصة بعد الفورة النفطية منذ أوائل ستينيات القرن العشرين وتخطي الثقافة الاستهلاكية الحدود الأمريكية إلى القارة الأوربية، ومنها إلى شرق المتوسط وإفريقيا، لتصبح ثقافة الاستهلاك ثقافة جمعية انعكست على كل مفاصل الحياة الاجتماعية وخاصة التربوية منها وبالتالي تحولت جميع القيم التي حملتها الأجيال السابقة وصولاً إلى جيل السبعينيات تحولت إلى قيم استهلاكية يبيح الإنسان بموجبها لنفسه ما حُلّل وما حُرم. إن التطور في اكتشاف البترول والغاز وسرعة استخراجه بأحدث الطرق وأيضا استهلاكه وخاصة من قبل الدول الأكثر تطوراً في الصناعة، (أمريكا تستهلك 28% من النفط المستخرج في العالم والصين 24%) حتى تجاوز استهلاك البشرية من البترول أكثر من نصف احتياطي الكرة الأرضية منه، ما أدى إلى تطور الصناعات وخاصة في غرب الأرض وشرقها واختراق الغازات المنبعثة من المعامل والمصانع لطبقة الأوزون التي تحمي الكرة الأرضية من السحب الشمسية المرتفعة الحرارة، وارتفاع درجات الحرارة على الكرة الأرضية ساهم في ازدياد حرائق الغابات في كل مكان.

في سورية موطن الإنسان الأول الذي حفر الأرض وحفر الكهوف الترابية منها والصخرية منذ عشرات آلاف السنين، وجعل منها بيوتاً شبه نظامية (يبرود- معلولا، مثالاً). وفي عصور لاحقة صنع الإنسان الصومعات للعبادة والنيقورات والنواغيص المحفورة في قلب الصخور والتي هي عبارة عن مدافن تتسع لثلاثة أشخاص بينهم مائدة بمساحة (متر مربع واحد) وباب حجري نظامي ارتفاعه 80سم، أشاد كل ذلك على سفوح المرتفعات ووسط الغابات وأعالي الجبال، وبقيت على حالتها الطبيعية وقاومت كل عوامل الطبيعة، ولكنها لم تستطع أن تقاوم إنسان هذا العصر بهمجيته وتخلفه البيئي الذي أخذ يهدم الكهوف العتيقة التي كان أسلافه يستخدمونها للسكن وتربية الماشية، وحفر الصومعات المبنية على شكل جذع هرم برأس هرمي بحجارة منقوش على كل منها تمثال لحيوان خرافي وبارتفاع سبعة أمتار، حفرها بعض الجهلة بحثاً عن الآثار، وكأن الكهنة في ذاك الزمان كانوا يكنزون الذهب والفضة، والأكثر ضرراً كان تدمير الغابات وخاصة في السنوات الخمس السابقة، هذه الغابات التي تحتاج إلى مئات السنين، لتعود كما كانت.

وهذا ما جعلني أسمي هذا العصر عصر تدمير البيئة، منذ انعقاد مؤتمر الأرض حتى اليوم والمستقبل القادم، إن ثقافة الاستهلاك التي انتشرت كالنار في الهشيم أخذت تلغي وتزيح من طريقها كل الثقافات الإنسانية والضمير والوجدان، ولا تعترف إلا بالكسب، مشروعاً كان أم غير مشروع، إنها ثقافة العصر. فما تدمير الغابات من خلال الحرق والقطع عندنا في سورية إلا دلالة على التربية السيئة التي كنا نربيها للطلاب منذ عشرات السنين على الشعارات الطنانة الجوفاء والتي لم تقدم إلا مزيداً من الجهالة والحقد تجاه البيئة التي نعيشها، إضافة إلى مضامين الكتب التي كنا ندرسها وندرّسها، والتي لم تحتو يوماً على ما يقوّي الشعور الإنساني للناس بعضهم تجاه البعض الآخر، ولا يقنعهم بأهمية البيئة والطبيعة بخضارها وأشجارها من البلوط والغار والصنوبريات وأهمها السنديان، التي تمتص غاز ثاني أكسيد الكربون وتطرح غاز الأكسجين وتساهم في تنقية الهواء الذي نتنفسه، ألم يكن تدريس مادة بعنوان البيئة ومادة بعنوان الأخلاق بدلاً من تدريس كتب التربية الدينية والتربية القومية أكثر فائدة من حشو أذهان الطلاب بمعلومات لا يفهمونها، وأثبت تطور الحياة والأحداث أنها لم تُفِد في شيء. فإذا لم ينعكس التعليم والتعليم والعلم على العلاقات مابين الناس إيجابياً، أو مابين الإنسان وبيئته أيضاً، فلماذا هذا العلم؟ ولنغلق مدارسنا ونعود مئات السنين إلى الوراء ونعيش كما كان يعيش أجدادنا من قبل. تصوروا أن أجدادنا عبر آلاف السنين عايشوا الكهوف والصوامع وغيرها دون أن يفكر بالإساءة إليها، حتى الغابات لم يكن يؤذيها، علماً أنه كان يتدفأ على الحطب وحده، ولكنه كان يحطب بما يفيد الشجرة وينميها. أتى إنسان اليوم إنسان هذا العصر عصر الاستهلاك وتدمير البيئة، وخاصة منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي لا يفكر إلا بشيء واحد: كيف سيستفيد، وقد ثبت، خاصة اليوم، أنه لا يفكر في الأزمة التي تعيشها بلادنا والمحنة التي يتعرض لها وطننا، بل يساهم في صب الزيت على النار، يبحث في الغابات إذا بقي شجرة ليقطعها ويقطّعها ويبيعها بحسب سعر الدولار، لقد امتدت أيديهم القذرة إلى عمق الغابات والمحميات بعد أن مشطوا الجبال والوديان كما تمشط فرقة عسكرية سهلاً واسعاً لانتزاع الألغام المزروعة. ألم تكن تربية التلاميذ منذ عشرات السنين على الارتباط بالوطن، بمياهه وأشجاره وفراته وعاصيه وينابيعه بمعامله ومصانعه بثروته الزراعية والصناعية والنفطية وفائدة الناس منها، أفضل من تربيتهم على أن السعودية شقيقتنا وقطر حبيبتنا والسودان بيتنا والتضامن العربي شعارنا والوحدة العربية قدس أقداسنا وهي المهمة العاجلة والسباقة على كل مهماتنا، أثبتت الأزمة التي نعيشها اليوم أن كل هذه الشعارات كانت كشمس شباط، لم تمنع البعض ممن تربى عليها من تدمير المعامل والمصانع وتقطيع الأشجار وحرق المحاصيل ومنع الفلاحين من الزراعة.

لقد آن الأوان لتغيير المناهج التربوية والتعليمية بمضامين تربط الإنسان ببيئته ومجتمعه ووطنه، بقريته بالمعامل بمؤسسات الدولة بشجر سورية وصخورها ومياهها وينابيعها بكل ذرة تراب فيها بصحرائها وبشمالها وجنوبها بساحلها بناسها بوحدة ترابها، بعيداً عن التمذهب والطائفية، لنلغِ من مناهجنا كل ما يفرق بين السوريين بحسب انتماءاتهم العرقية أو المذهبية والقومية، وليكن الوطن والمواطنة المعيار الوحيد للانتماء.

العدد 1105 - 01/5/2024