حقائق تقتضي المواجهة! (2 من 2)

الاتجاه الآخر الذي يتوهم الإفادة من صعود المد الإيماني الديني بصيغته الحديثة، هو الشعوب الفقيرة التي لا ترى لها ملجأ من الفقر، غير إيمانها الحالم. هذه الشعوب خذلها واقعها وسلطاتها التي فشلت في بناء الدولة الحديثة الديمقراطية، والاقتصاد الذي ينهض بمستوى الفقراء ويمّكنهم من الخروج من التخلف، كما يضمن الحرية والاستقلال. وقد قادها إلى هذا الاتجاه الذي ضمن تخلفها عبر ثمانية قرون دون أن يملك مخرجاً، كما أنه أفسح ويفسح المجال لمزيد من الاستغلال بضمان العامل الديمغرافي والزيادة العشوائية في السكان، التي لا تتناسب مع النمو الاقتصادي.

اللجوء إلى الإيمان طريق سهلة يتوسلها الناس دون حساب ما تجلبه لهم من تفرقة طائفية ومذهبية قاتلة، ومن خدر يمكّنه الإيمان، فيصرف الناس إلى الكسل والتواكل، وقد آل ذلك إلى الشعور بالمظلومية العقدية عند فريق من المسلمين، بحيث لا نسمع منهم إلا الخطاب المنافح عن الإسلام وما يراد به من شرور من قبل أعدائه، وعندما لا يتوفر العدو الخارجي يتم استحضار العدو الداخلي (المذهبي)، بحيث تبقى صورة العدو الحقيقي أو المتخيل تقود مشاعر المؤمنين، وقد تستنفر بعضهم ضد بعض، فيصبح شريكاً للاستبداد والفساد وقوى الإمبريالية العالمية في القعود بالبلاد عن التقدم، وكلها قوى أتقنت أدوارها.

رابعاً الحقيقة الرابعة تترتب على الحراك الحديث في الوطن العربي واستثماره. ويكون هذا الاستثمار من نصيب القوى التي أثبتت وجودها الفاعل فيه، سواء كانت مدعومة بقوى الغرب المهيمن التي ستتلاقى مع إرادة الاستقطاب الأمريكي الذي تحدثنا عنه، أو ذات التوجهات الإسلامية التي تتلاقى مع قوى أشرنا إليها وإلى استمرار إعاقتها وإعادة إنتاجها للعجز عن الخروج من مأزق التقدم، ما لم تكن هناك إرادة شعبية فاعلة تمسك بزمام الأمور وتوجهها لصالح الجماهير المهمشة والمستبعدة.

الأزمات التي تمر بها الشعوب لها ظروفها، وتنمو في هذه الظروف قوى تنعشها الأزمات فتستغلها أحسن استغلال، عن طريق: الانتهازية والاحتكار والنهب وإدارة الانهيارات واستغلال حاجات الناس الملحة في ظل ضعف المؤسسات الضامنة للحقوق، أو تحت رعايتها الضعيفة والبعيدة عن الرقابة. ما يبرز مراكز قوى جديدة، ورساميل تتجمع في أيدي مستغلي الأزمات ومديري الأحداث، وهذه تبدو في نهاية النفق أنها القادرة على لعب دور المنقذ للاقتصاد والسياسة، تحت راية أمراء الحروب المتحولين إلى الديمقراطية، ما يعني أن السلطات الناتجة عن الأزمات الطاحنة والحراك العنفي ستكون صورة لهذا الواقع، من جنسه ولونه ونتاج عصاباته عن طريق صناديق الاقتراع…

قد يخفف من ضغطها بقاء مؤسسات الدولة لإدارة التحول مهما كانت ضعيفة، أما إن حدث انهيار لهذه المؤسسات، فستكون القوى العنفية هي البديل بإداراتها وشروطها. وستكون من العثرات المفروضة نقطة الانطلاق الجديدة والمتحكمين بها والمؤثرين فيها، وبضمنهم القوى الخارجية ذات التأثير التي عملت القوى الفاعلة في ظلها أو معها، ما يجعل مخرجات الحراك في غير صالح الشعوب والأوطان، حتى وإن كان عن طريق موصوف بالديمقراطية، لأنها غالباً لن تكون لفائدة القوى الشعبية.

الجهة الثانية المشار إلى فاعليتها في الحراكات تلك المقودة بالخطاب الإيماني ومشاعر النقاء، والكثير من المؤمنين لا يمتلكون سوى الخطاب غير الفاعل إلا شكلاً، ومن يمتلك المال منهم سيعمل بمنطق مالكي الرأسمال مهما عبروا عن دور للاقتصاد الإسلامي الذي يصب في النهاية في خانة الاقتصاد الرأسمالي والملكية الفردية، حتى لو كان الحديث عن المسلمين وجماعتهم، ما يعني أنه لن يكون أقل استبداداً وفاشية، بل قد يكون منسجماً مع قوى الإمبريالية العالمية. وهنا نذكر أن الاستقطاب والفرز الذي جرى على مستوى العالم، دول قوية ودول ضعيفة، وأكثر قوة وأكثر ضعفاً، سيتم إنتاجه على المستوى الداخلي، فيتحول الداخل إلى صورة الخارج.

هنا تبدو البلاد بين فكي كماشة قوى مرتبطة بالإمبريالية الغربية، وقوى إسلامية، وكلاهما من أسباب تخلف البلاد وإنهاكها، لا يقلون في ذلك عن أنظمة العجز او التبعية، وهنا يأتي التساؤل عن دور القوى المقودة بمشاعر وطنية صادقة، وهي قوى اليسار بمعناه الواسع، لا اليسار الذي حددت صورته الأنظمة التي سادت في عالم سمي اشتراكياً في يوم ما. اليسار المقصود هو كل العاملين لصالح الإنسان وإنسانيته وخلاصه من الإعاقات والاستغلال والاستبداد والتخلف، وتمكين حقوقه التي ناضلت الشعوب في سبيلها عبر التاريخ، والعامل على انتشال الفئات الفقيرة والمهمشة مما هي فيه.

هناك خوف من استبعاد هذه القوى بحيث لا يبقى لها دور بين فاشيتين، رأسمالية مرتبطة بالاستعمار، ودينية أكثر تخلفاً ورجعية. وقد برزت الصورة في تونس من خلال انتخاباتها، مع أن حراكها كان أقل عنفاً وكلفة، فقد أشارت نتائج الانتخابات إلى عدم احتلال قوى اليسار المرتبة الأولى ولا الثانية، مع أن جماهير الشعب صاحبة المصلحة جميعاً هي التي تحركت، واستغلت حراكها القوى الإسلامية والرأسمالية.

هنا تبدو مسؤولية القوى التي دفعت  ماضيها ثمناً للاستبداد وقوى الهيمنة الاستعمارية، في ألا تدفع مستقبلها أيضاً، وقد بذلت جهودها في الحراك الذي أملت أن يغير واقعها. وما جعلها الواقع الفاسد تدفعه، يجب ألا يدفعها الواقع الجديد إلى دفعه، فانتهاك الديمقراطية، قد لا يقل عن انتهاك الاستبداد، بل قد يتحول إلى استبداد جديد. بمعنى أن الشعوب إذا أفسحت المجال لقوى الفساد والاستبداد أن تعود عن طريق صناديق الاقتراع، وتتوهم أنها أصبحت في واقع ديمقراطي فرحة بذلك، فلن تلبث أن تكتشف أنها عادت إلى ما أملت أن تخرج منه، أي إلى الاستغلال والإهمال وقلة الحيلة والدور، في واقع لا تستطيع الاحتجاج عليه لأنه من صنعها، مثلما يجب أن تكون حريصة أيضاً على ألا تفسح المجال للعسكر للعودة إلى لعب الدور باعتبارهم المنقذ الذي لا بد منه، ففخّ العسكرة يشبه فخ الرسملة والأسلمة.

العدد 1107 - 22/5/2024