حسين مروة يضيء «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية»

إن الحديث عن التراث الفكري للباحث المميز حسين مروة أمر ليس صعباً فحسب، بل فيه شيء من المخاطرة لأن شخصاً واحداً لا يستطيع الغوص بمفرده في هذا التراث الكبير الذي تركه لنا وللشعوب العربية والإسلامية التي لا تزال ترزح تحت أوهام الماضي.

إن أبرز ما حققه هذا المفكر يكمن، قبل كل شيء، في:

1- شجاعته غير المحدودة في التصدي لتراثنا العربي الإسلامي من منظور نقدي وقد رفع عنه القداسة. ومن منظور إعطاء هذا التراث بعداً اجتماعياً سياسياً من خلال ربطه بالواقع الذي كان يعيشه العالمان العربي والإسلامي.

2- إبرازه تلك النقاط المضيئة لهذا التراث العربي الإسلامي، التي شكلت أرضية للفكر التنويري المعاصر في ظرفنا الحالي.

3- الخروج باستنتاجات برزت في مؤلفه الكبير (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) خدمت وتخدم مستقبل الشعوب العربية حالياً، وأغنت المكتبة العربية والإسلامية.

4- تركه الباب مفتوحاً أمام باحثين جدد كي يُغنوا ويطوروا هذه الدراسة التي قام بها لتصبح أكثر شمولاً.

5- اتبِّاعه منهجاً جدلياً مبنياً على أرضية علمية، برز ذلك واضحاً من خلال ربط هذا التراث بالمصالح الاجتماعية.

6- وأخيراً، لا بد من القول أن المفكر حسين مروة أعطى للأفكار دورها التاريخي، وربط بصورة إبداعية بين الأصالة والمعاصرة، واستطاع أن يجد العلاقة المتبادلة بين ثقافة شعوب هذه المنطقة. لقد رفض بصورة صارمة ذلك الاسلوب الذي ينظر في تمايز الثقافات القومية على أساس عرقي عنصري. لقد اعتمد على التصنيف المنهجي أساساً في استقصاء مواقف المؤرخين والباحثين من التراث الفكري.

والآن، ومن خلال استعراضنا للمسائل التراثية التي عالجها كاتبنا، نرى أن منطلقه كان جدلياً وقد وضع أمامه عدداً من المهام:

المهمة الأولى: هي البرهنة على أن الفلسفة العربية الإسلامية، انطلاقاً من كونها نتاج عملية تاريخية داخل حركة التطور الفكري، مرتبطة ارتباطاً عضوياً بحركة تطور المجتمع العربي الإسلامي.

المهمة الثانية: هي الكشف عما يحتويه هذا التراث من قيم تقدمية ذات نزعات مادية كانت قد طمست  سابقاً.

المهمة الثالثة: دراسة التراث العربي الإسلامي من خلال القضايا المطروحة فيه لا من خلال الشخصيات الفلسفية بحد ذاتها.

المهمة الرابعة: هي تحديد مراحل الفكر العربي الإسلامي من حيث تطوره باتجاه الفلسفة.

المهمة الخامسة: تحديد المقدمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لنشأة البذور الأولى للفلسفة.

المهمة السادسة: دراسة حركة التفاعل بين العرب وسائر الشعوب التي دخلت جزءاً عضوياً في البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المتكاملة لمجتمع واحد هو المجتمع العربي الإسلامي.

المهمة السابعة: دراسة المخاطر الخارجية في تطور الفكر الفلسفي للتراث.

والمهمة الثامنة: هي تحديد الخصائص المميزة للفكر العربي بمفهومه الأوسع.

وهنا يؤكد الكاتب على أن هذه الخصائص تنطلق منهجياً من مبدأين:

المبدأ الأول: الخصائص المكتسبة تاريخياً.

المبدأ الثاني: وهو المتصل بقضية تطور الفلسفة العربية الإسلامية بوجه خاص من حيث العلاقة بين خصائص هذا التطور والخصائص العامة لتطور الفكر الفلسفي بوجه عام.

وبالتالي، فإن الكاتب ينطلق في دراسته من منطلق تاريخي يبدأ مما قبل نشوء الفكر الفلسفي. أي، من العصر الجاهلي، وهو يقسمها إلى مرحلتين، ويتحدث عن ظاهرات المجتمع الجاهلي والظروف الطبيعية والسكانية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية، وبروز الشكل الاقتصادي للتبادل، ونشوء التفاوت في توزيع الثروة، والأساس المادي لسلطة رئيس القبيلة……

ثم يتطرق الكاتب إلى المنطقة العربية: الحجاز ومكة.. وإلى العلاقات التجارية والسلطة السياسية، والاستثمار الربوي.. ويشير إلى معالم الثقافة العربية في العصر الجاهلي، والظاهرات الدينية في هذا المجتمع.

ثم يتحدث عن فترة ظهور الإسلام ومرحلة الخلفاء الراشدين.. وانفجار الصراع الاجتماعي السياسي، وحروب الردّة، وحروب الفتح العربي الإسلامي.. وعملية التفاعل الاجتماعي والثقافي.. وعن الصراع الاجتماعي وظهور حركة الخوارج. ويسهب في الحديث عن الانقسامات التي جرت في صدر الإسلام، والصراعات الفكرية التي تبلورت، خصوصاً في مرحلة الخلافة الأموية. وهنا، كما قلنا، يركز بالدرجة الأولى على المعتزلة وصراعهم مع الفكر الأشعري.. ورغم أن الفكر المعتزلي، كما يشير الكاتب، كان مصبوغاً بصبغة دينية، إلا أنه قوَّم هذه الحركة من حيث دورها التاريخي تقييماً إيجابياً حيث وقفت، كما يؤكد الكاتب، ضد الفكر الجبري، وأكدت على حرية الإنسان في أفعاله.. واعتبروا أن القرآن هو مخلوق وبالتالي نفوا عنه فكرة الإطلاق. ويؤكد الكاتب على أن الفكر المعتزلي لم ينشأ من فراغ، وإنما خرج من تلك البذور الفكرية التي تنامت سريعاً بفضل ما أحدثته أفكار القدرية. لكنهم لم يخرجوا من مثاليتهم، فقد كانوا أبناء الفترة التاريخية التي نشأوا فيها. ويؤكد الباحث أن ظهور المعتزلة مرتبط أيضاً بظروف الصراع السياسي والاجتماعي في عصر صدر الإسلام.

ثم يتحدث الكاتب بعد ذلك بإسهاب عن التيارات المعارضة للمعتزلة ويحددها بثلاثة تيارات:

التيار السلفي الذي كان يرى ضرورة الإيمان بصفات الله كما وردت في القرآن إيمانا مطلقاً وبدون أي تأويل، وأبرز ممثلي هذا التيار: (مالك بن أنس).

التيار الحنبلي وقد تزعمه أحمد بن حنبل الذي رفض اعتبار القرآن مخلوقاً واعتبره فعلاً من أفعال الإله.

التيار الأشعري الذي يؤكد أن صفات الخلق نوعان: – الصفة الأزلية الملازمة لذات الله. والصفة الحادثة.. بمعنى أن الله يتصف بالأمر والنهي منذ الأزل. . أي قبل وجود المخلوقات.

أما الألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء والرسل، فهي دلالات على الكلام الأزلي وليست هي الكلام الأزلي.. والدلالة هي مخلوقة. هي محدثة. أما المدلول، فهو قديم وأزلي مثل الفرق بين القراءة والمقروء.

ويستمر الباحث في دراسته للفكر الفلسفي في العالم الإسلامي ليتوقف عند الفكر التصوفي في الإسلام. هذا الفكر الذي كان له تأثير كبير جداً لفترة طويلة من الزمن على المجتمع العربي الإسلامي إذ شكل جزءاً من  الفلسفة العربية الإسلامية، ولكنه تميّز بطابعه الخاص وعكس مرحلة محددة من مراحل تطور المجتمع العربي الإسلامي شكلت بداياته معارضة ثورية لعلاقات الانتاج الإقطاعية التي سيطرت في دولة الخلافة. وينقسم الفكر المتصوفي، كما يؤكد الباحث، إلى قسمين رئيسيين:

القسم الأول: وهو قسم يعالج التصوف من ناحية السلوك العملي للناس. وهو لا يستند إلى أساس نظري خارج عن الإسلام. وقد اطلق الباحث على هذا القسم اسم: (التصوف السلوكي).

أما القسم الثاني: فيعالج التصوف كفكر نظري.. وهذا ما جعله يشكل تياراً مستقلاً في الفكر العربي الإسلامي حيث حمل نظرة جديدة إلى مفهوم التوحيد عند الإسلام.. وهذه النظرة كانت تعبر عن رفض الأساس النظري لإيديولوجية النظام الاجتماعي الإسلامي كنظام مستبد، وبالتالي كانت تكمن في هذه الحركة، وخصوصاً في بداياتها، نزعة ثورية.. ولذلك سماها الكاتب: (التصوف النظري) وقد استفاض في معالجة كلا القسمين بصووة تفصيلية.

يشير الكاتب أخيراً إلى أن الفكر الصوفي لعب دوراً احتجاجياً، في مراحله الأولى، ضد النظام القائم وقد عمل باتجاه أن يميّز نفسه عنه. بيد أن هذا الفكر نفسه كان يحمل في طياته بذور تحوله إلى فكر رجعي، وخصوصاً في المراحل المتأخرة من تطور النظام الاقطاعي.

وبعد ذلك يتطرق الكاتب إلى رسائل (إخوان الصفا)، ويؤكد على الدور الإيجابي التقدمي  لفكرهم، وخصوصاً فيما يتعلق بالعقل الذي هو ما يميّز الإنسان، والذي لا يمكن إهمال أحكامه واستنتاجاته. ويستعرض أفكارهم حول المعجزات ورفضهم التقليد في الدين ما لم تقم البراهين، واعتبارهم أن الأحكام التي يستخرجها العقل البشري هي أسمى أنواع المعرفة، مع اعترافهم بالمعرفة الحسية. ويشير الكاتب إلى أن معظم الأصول التي يعتمدون عليها لتفسير العالم هي مستمدة من العلوم الطبيعية والرياضية. وإنهم بهذا الطرح يسجلون ظاهرة علمية فلسفية يكمن جوهرها في الميل إلى تفسير العالم إنطلاقاً من نزعة مادية. ويؤكد الكاتب أنه كان للفلسفة العربية الإسلامية موقفان من مسألة الوجود والماهية:

موقف يتمسك بالماهيات السكونية الثابتة القائمة خارج الطبيعة. وموقف يمسك بفكرة حركية العالم وتغيّره وتحوله المستمر الذي هو من لوازم الوجود.

كان الموقف الأول يمثل إيديولوجية الدولة الرسمية كما يؤكد الباحث. والثاني يمثل إيديولوجية الطبقات والفئات الاجتماعية الطامحة إلى تغيير هذا النظام.

ويتابع الباحث مناقشة قضية الوجود والماهية لدى العديد من الفلاسفة الإسلاميين، ويؤكد، خصوصاً، على الدور التاريخي للفارابي الذي يؤكد على أن الوجود هو الأصل في مجال نظرية المعرفة. أي، إن الوجود سابق للمعرفة. وهذا من حيث الجوهر موقف مادي. كما يؤكد الفارابي على ترابط الحركة الداخلية للمادة وتحولها وصيرورتها، وذلك يحمل شيئاً من الفكر الديالكتيكي. كما أن الفارابي تلمّس بعض الأفكار ذات الطابع المجتمعي التي تعبر عن إيديولوجيا الفئات النامية في المدينة. ومن ذلك كانت نظرة الفارابي إلى اعتبار القرية (خادماً للمدينة).

وأخيراً، كما يشير الكاتب: إن فلسفة الفارابي تؤكد على أصالة الوجود وموضوعيته. وأن المفاهيم ناتجة عن هذا الوجود. وأن الحركة الطبيعية في هذه الموجودات لها قوانينها الداخلية المستمرة. وأن العناصر الأولى للطبيعة ليست ماهيات مطلقة، بل هي شكل من أشكال المادة.

ثم يعرج الباحث، بعد ذلك، على فلسفة (الرازي) ويعرض أبرز أفكاره.. ويمكن تلخيصها بما يلي:

قِدم الهيولي والمكان والزمان، وأن الموجودات تحدث بالتركيب لا بالإبداع.

أنكر الرازي معجزات الأنبياء. بيد أنه وصل إلى هذه المواقف المادية، من حيث الجوهر، عبر تصورات مثالية صادرة أصلاً عن الفلسفتين: الأفلاطونية والأفلوطينية…

أما فيما يتعلق بفلسفة (ابن سينا)، فقد سارت قدماً إلى الأمام لأنه ربط نظرية المعرفة بالمنهج التجريبي.. وكانت قضية  الوجود، بالنسبة له، هي المحور الأساسي، حيث أخذ ابن سينا بفكرة أصالة الوجود. وفي خاتمة كتابه الموسوعي يشير كاتبنا إلى التأثيرات التي أحدثتها الفلسفة الإغريقية بالفلسفة العربية الإسلامية. إلا أن المناخ الاجتماعي والإيديولوجي الذي عاشته الفلسفة اليونانية كانت تختلف نوعياً عن المناخات الاجتماعية والإيديولوجية التي ظهرت فيها الفلسفة الإسلامية. لقد كانت العلاقات الاجتماعية في عصور اليونان القديمة تتميز بكونها علاقات مجمتع عبودي، بينما كانت علاقات المجتمع العربي الإسلامي تتميز بكونها نوع من علاقات الإنتاج الإقطاعية متداخلة بعلاقات تجارية وخدمات مصرفية متطورة نسبياً. إن هذا الاختلاف النوعي أوجد بالضرورة مأزقاً جوهرياً في نوعية التصنيف الطبقي والقواعد البشرية للنشاط الثقافي بين المجتمعين، بالإضافة إلى أن الفلسفة اليونانية لم تكن المصدر الوحيد للفلسفة العربية الإسلامية، بل تعددت مصادرها من فلسفات فارسية وهندية وبلاد ما بين النهرين، ومصر وسورية الأكثر قِدماً.

ثم يؤكد الباحث على أن الفلسفة العربية الإسلامية عادت بدورها لتمارس تأثيرها في فلسفة أوربا القرون الوسطى رغم وجود فوارق بين المجتمعين.

ونهاية لا يسعنا الإلمام بجميع الأفكار التي ناقشها وعالجها المفكر الكبير حسين مروة في بحثه الموسوعي: (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية)، فهذا الأمر يحتاج إلى الكثير من الدراسات والأبحاث لا يمكن استيعابها في هذه المقالة الموجزة.

ولا يسعنا إلا أن نرفع قبعاتنا تحية له.. وننحني أمام فكره باحترام شديد.

 

 ملخص عن الدراسة التي نشرت في مجلة الطريق العدد 8 شتاء 2014  عن: (النتاج الفكري والثقافي للمفكر الكبير حسين مروة) .. تحت عنوان: (حسين مروة يضيء (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية).. للكاتب محمد الزبيدي..

العدد 1107 - 22/5/2024