كلمات في عبد الكريم أبا زيد.. الإنسان

خرج عبد الكريم أبا زيد بعد ثلاث سنوات مع غيره من الرفاق الشيوعيين نزلاء سجن المزة إبان عهد السراج عام ،1961 وقد توجهنا نحن ثلة من أبناء السويداء ممن كانت تربطهم صلة بالحزب إلى مدينة درعا لتهنئتة بسلامة الخروج من ظلام السجن إلى فضاء الحرية. دخلنا بيتاً شعبياً من بيوت أبناء درعا الفقراء، وكان أول ما ملأ صدورنا بالدهشة أننا وجدنا عبد الكريم على غير ما رسمه خيالنا الفتي آنذاك، فقد مثل أمامنا شاب نحيل القوام، ضامر الجسم، طريّ العود، وتساءلنا: كيف استطاع بهذا الجسد الضيئل أن يتحمل سياط الجلادين، ووحشية تعذيبهم، وظلام عقولهم؟ وحين بدأ عبد الكريم يتكلم، عرض تجربته بتواضع جمّ، ودونما إيحاء بأية بطولة استثنائية، بل شاب حديثه بساطة أضاءت وجهه الذي لا تفارقه ابتسامة لطيفة ومحببة.

 مضى بنا الزمن، وجرت مياه كثيرة، فسافر عبد الكريم لدراسة الاقتصاد في جامعة موسكو، وهناك أقبل على ميادين المعرفة ينهل منها بشغف، وعاد بمخزون من الآراء، والانطباعات، والذكريات، والأفكار الغنية، والمتنوعة المتعلقة بالعلم، والفلسفة، والأدب، والفن. وكان همّه الاستفادة من هذا الزاد الغني ووضعه أمام رفاقه وأبناء وطنه.

وتجلت في شخصية عبد الكريم، حين عصفت الانقسامات بالحزب الشيوعي، سمات أصيلة، كشفت عن سلامة الحس، واستقلال الرأي، والنظرة المنصفة إلى الرفاق بصرف النظر عن مواقعهم في هذا الفصيل أو ذاك. كان من حيث الجوهر شيوعياً فحسب، بعيداً عن الادعاء باحتكار الحقيقة وعن الغلواء والتعصب، مفعماً بالفكر النقدي الديمقراطي،يغلّب الأسباب الذاتية في الانقسامات على الأسباب الموضوعية، مقتنعاً بالمقولة اللينينية) بأن الانقسامات هي الثمن الباهظ الذي تدفعه الأحزاب بسبب أخطائها، وكان شديد النفور من بيروقراطية القمة المتمثلة في أشخاص يحتلون أعلى المناصب في هيئات حزبية، ونقابية، وحكومية، يتمسمرون فيها لا يحولون ولا يزولون،إلى أن يقضي الله فيهم أمراً كان مفعولاً.

وقد امتلك أبو عزيز قلماً يفيض سخرية، وكان هذا القلم كمبضع الجراح لا يرحم وهو يقتصّ على الصعيد الوطني من مثالب البرجوازية البيروقراطية، والطفيلية يصوّر عيوبها ونقائصها وارتكاباتها وهي تسمّم حياتنا، وتشوه مفاهيمنا، وترسخ التفاوت الهائل في مجتمعنا، تبتز فقراءه وتشحن قلوبهم بالغبن، وتنمّي إحساسهم، بالقهر، ومذلة العوز والظلم. ويمكن النظر إلى ما كتب باعتباره يمثل واحداً من الكتاب الذين أسهموا في إرساء الأدب الساخر، لمعرفته أثر السخرية في تطهير الحياة من الظلم الإنساني، وتهديم جدران العسف، والخوف، والغطرسة، والتبجح، ولعل قرّاء زاوية (دبابيس) في صحيفة الحزب ما زالوا يذكرون كيف كان عبد الكريم لمّاحاً يجيد اقتناص المفارقات، فيبعث البسمة لترتسم على الوجوه وهو يتناول بسخريته مفارقات السياسة الدولية وتناقضاتها، كاشفاً شريعة الغاب التي لا تزال تتحكم في مصائر البشر، من خلال سطوة مشعلي الحروب بقصد الهيمنة على الشعوب ونهب بلدانها. ومن يقرأ كتابه (شر البلية) يدرك أن عبد الكريم كان شاهد عصره، فلم يغفل عن الأحداث الكبيرة ولا الصغيرة التي أثرت على حياة الناس، لا في سورية أو العالم العربي فقط، بل أيضاً على حياة البشر جميعاً. ولعل عناوين بعض خواطره تظهر كيف استطاع أن يتناول المسائل الحياتية المختلفة، البسيطة، والخطيرة بسخرية مبتكرة ومنها: (نيويورك مربط خيلنا)، (حُكامنا أكبادنا)، (مؤتمرات القمة وبردعة حمار جحا)، (هل كان الثعالبي يحب المكدوس)، (أكاديمي في تصليح الحنفيات)، (جابر بن حيان مستشار في وزارة التربية).

أجل من خلال موهبة إيجاز القول،ورشاقة الأسلوب تظهر بوضوح وفي أعماق السخرية جدية الكاتب كل الجد، وعمق التزامه الذي لا يشوبه شائبة، فقد ندّد عبد الكريم بالطغاة عبر التاريخ، وهاجم بضراوة قوى الإرهاب في وقت مبكر، وذكّر بقول برناردشو (أمريكا انتقلت من البربرية إلى الفاشية) فاضحاً حروب أمريكا التي لم تتوقف على شعوب كوكبنا، والتي كان لبلادنا العربية منها نصيب، وأعاد إلى الأذهان قول ماركس (إن المأساة تسمو بروح الإنسان وهو يناضل في سبيل شيء مقدس هو الحرية)، وأكد علاقة الحرية جدلياً بالعدالة الاجتماعية وبمسألة الغنى والفقر مشيرًا إلى قول أناتول فرانس (إن لأصحاب الملايين والفقراء الحرية نفسها، في قضاء الليل تحت أحد جسور نهر السين، ولكن أحداً لم ير غنياً وقد نام تحت الجسر، بينما لا يحصى عدد المشردين الذين ينامون هناك). وكان أبو عزيز في كل ما كتبه لسان البسطاء، وسجناء الرأي، والمضطهدين والثوريين، والمناضلين.

كنا نلتقى عبد الكريم من حين إلى حين، تارة عندما يحل ضيفاً في السويداء ليحيي أمسية في فرع اتحاد الكتاب، فينتهي بنا اللقاء في بيت من بيوتنا نتسامر احتفاء بالضيف. وتارة نلتقي به في دمشق مع شوقي بغدادي وبعض الأصدقاء الصحفيين والفنانين في مقهى الكمال الصيفي، فيذهب بنا الحديث في كل اتجاه، ونصغي إلى طرائف عبد الكريم التي تزيل الغم من قلوبنا، وكان يدرك كم نحب حضوره، وابتسامة عينيه، وكم يروق لنا أن نستمع إليه، وهو يعيد على مسامعنا قول شارلي شابلن (يوم دون سخرية هو يوم ضائع). وكان أبو عزيز يحرص على مغادرة المقهى الساعة الثانية ظهراً إلى بيته، ويرفض الذهاب مع الآخرين إلى أحد المطاعم، وذلك لضيق ذات اليد، فلقد عاش عبد الكريم فقيراً وهكذا مات.

ألقت المأساة السورية بثقلها على وجدان عبد الكريم وعذبت روحه، وقد سار مع المتظاهرين في بداية الحراك السلمي، وما إن بدأت الدماء تصبغ أديم الأرض السورية، حتى أدرك حجم المخاطر من استمرار هذه التراجيديا التي تهدد حياة أبناء شعبه، ووجودهم،وبقاءهم على أرض آبائهم وأجدادهم، وكان يتمنى أن يرى بعينيه نجاح السوريين في انتزاع حل سلمي يوقف الذبح، والقتل، والاختطاف، والدمار، والتجويع، والحصار، والتهجير ويعتبر ذلك أسمى غاية، وأنبل هدف لكل إنسان شريف يعز عليه مصير وطنه، وظل يأمل بعودة السلم والأمان إلى المدن والقرى السورية التي أحب، ولكنه رحل وحلمه النبيل هذا لم يتحقق.

وليس من المبالغة القول في النهاية، إن من يعرف سجايا عبد الكريم، وخصاله، يصعب عليه أن ينساه، فهو واحد من أبناء سورية البررة، الذين تميزوا بالوفاء والحب لها، وكرس قلمه وحياته دفاعاً عن كرامة ناسها، وحقهم في العيش بأمن، وعدل، وسلام، ويصح فيه قول الشاعر الروسي بوشكين (الذي طالما سمعناه منه:

وطويلاً سيظل قومي يحبونني

فقد هززت بقيثارتي المشاعر الخيرة

وتغنيت ممجداً الحرية في عصري العاتي

ناديت بالرحمة على المقهورين

العدد 1104 - 24/4/2024