مسألة المواطنة وأبعادها في الدولة العربية المعاصرة (3)

مسألة المواطنة في الدولة العربية

إن الحد الأدنى لاعتبار دولة ما، مراعية لمبدأ المواطنة من عدمه، يتمثل في وجود شرطين جوهريين: أولهما، زوال وجود مظاهر حكم الفرد أو القلة من الناس، وتحرير الدولة من التبعية للحكام، وذلك باعتبار الشعب مصدر السلطات وفق شرعية دستور ديمقراطي، ومن خلال ضمانات مبادئه ومؤسساته وآلياته الديمقراطية على أرض الواقع. وثانيهما، اعتبار جميع السكان الذين يتمتعون بجنسية الدولة أو الذين لا يحوزون على جنسية دولة أخرى (البدون، أوالمكتومون، أو الذين يعدون بحكم الأجانب) المقيمين على أرض الدولة، وليس لهم في الحقيقة وطن غيرها، مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات يتمتع كل فرد منهم بحقوق والتزامات مدنية وقانونية متساوية، كما تتوفر ضمانات وإمكانيات ممارسة كل مواطن لحق المشاركة السياسية الفعالة وتولّي المناصب العامة.

لكن من المؤكد أن الجوانب المدنية والقانونية والسياسية من حقوق المواطنة وواجباتها ليست كافية للتعبير عن مراعاة مبدأ المواطنة، هذا على الرغم من كونها أبعاداً لازمة لمراعاة مبدأ المواطنة. فإلى جانب هذه الأبعاد القانونية والسياسية هناك أيضاً الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والحقوق البيئية.

والحقيقة فإن ممارسة مبدأ المواطنة على أرض الواقع يتطلب توفير حد أدنى من هذه الحقوق للمواطن حتى يكون للمواطنة معنى، ويتحقق بموجبها انتماء المواطن وولاؤه لوطنه وتفاعله الإيجابي مع مواطنيه، نتيجة القدرة على المشاركة الفعلية والشعور بالإنصاف، وارتفاع الروح الوطنية لديه عند أداء واجباته في الدفاع عن الوطن، ودفع الضرائب، والمساهمة في صنع الحضارة الإنسانية(24).

وبدوره يفرق الباحث مسعود موسى الريضي بين مفهومي (المواطنية) و(المواطنة) فالمواطنية Citizenship Proess))، هي العملية السياسية-الاجتماعية. التي تؤدي إلى تشييد (المواطنة).

أما مفهوم (المواطنة)Citizenship) – ) فهو يشير إلى علاقة الفرد بالدولة التي يعيش في كنفها، ويكنّ لها ولاء عملياً، وولاء وجدانياً، مقابل ضمان الدولة لعدم المساس بكرامته الإنسانية، وصيانتها لحقوقه الأساسية المتمثلة بحق العمل القائم على مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وحق الاعتقاد الفكري بما فيه الديني والحزبي، وحق المشاركة في القرارات السياسية عن طريق الانتخاب الحر والترشح للعمل السياسي. أما ولاء الفرد للدولة، فيعبر عن نفسه عن طريق تأدية الفرد لواجباته من خلال مشاركته في بناء المجتمع، كدفع الضرائب، ومشاركته في حماية بلاده عن طريق أداء الخدمة العسكرية.

 والمواطنة بشكل بسيط ودون تعقيد، هي انتماء الإنسان إلى بقعة أرض، أي الإنسان الذي يستقر بشكل ثابت داخل الدولة أو يحمل جنسيتها، ويكون مشاركاً في الحكم ويخضع للقوانين الصادرة عنها، ويتمتع بشكل متساو مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق، ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها.

وهكذا، فإن المواطنة تمثل بنية شاملة تتألف من شبكة من العلاقات والعوامل التي من شأنها تنظيم علاقة الفرد بدولته بطريقة تعمل على توليد الإحساس بالأمان وخلق حس الانتماء للوطن في أعماق نفس هذا الفرد، الأمر الذي يعني أن المواطنة لا تعبر عن حالة جغرافية بيئية اجتماعية وحسب، بل عن حالة نفسية لدى المواطن أيضاً(25). ويشير الريضي إلى أن المواطن هو الإنسان الفرد كامل العضوية في الدولة. أما المواطنة فهي الوضعية القانونية الأساسية في الدولة الحديثة، حيث يقف الفرد (أمام الدولة) كمواطن قبل كونه شيئاً آخر. وعضويته في الدولة، لا في طائفته،ولا في العائلة ولا غيرها من الانتماءات الأخرى الممكنة، هي الأساس القانوني الذي يحدد العلاقة المتبادلة بينه وبين الدولة(26).

إذاً المواطنة تعني اشتراك عموم الناس في علاقات سياسية جامعة، يسقط بمقتضاها كل نوع من أنواع التعيين الطبيعي للناس، أي كل نوع من تعريفهم داخل دائرة انتمائهم إلى بنى طبيعية (أي بدائية) كالقبيلة والعشيرة والطائفة، ليقوم مقامه تعيين سياسي جديد يكون مبدؤه الانتماء إلى كيان جمعي أعلى هو الكيان الوطني(27).

وقد اتخذت الموطنة عبر المراحل التاريخية المختلفة مجموعة من الأشكال والأبعاد المتدرجة، أبرزها: المواطنة التقليدية، المواطنة الدستورية، المواطنة الإيكولوجية، مواطنة الحراك، المواطنة الثقافية.

فمواطنة الحراك على سبيل المثال، تضم الجماعات أو الأفراد كثيري الانتقال من دولة إلى أخرى، والاتصال بالتالي بثقافات ومجتمعات مختلفة، فلهم أن يطالبوا في أثناء إقامتهم في أي مجتمع غريب بجميع الحقوق، التي يتمتع بها المواطنون الأصليون، فجماعات الغجر مثلاً من حقهم أن يعاملوا المعاملة نفسها التي يلقاها مواطن الدولة التي تحل بها تلك الجماعة(28).

أما المواطنة الثقافية، وتعني حق الجماعات الفرعية والأقليات في الاحتفاظ بهوياتهم الثقافية ودمجها في الثقافة العامة الرسمية السائدة في المجتمع، وأن يترتب على ذلك المشاركة الإيجابية والفعالة في مختلف أنشطة الحياة، والالتزام بالقوانين والقواعد الأساسية المنظمة للحياة العامة في الدولة.

وهذا يعني إقرار الدولة بوجود هذه الجماعات المتمايزة ثقافياً، والاعتراف بحقها في الاحتفاظ بمقومات ثقافتها الخاصة، كما يعني التفريق داخل المجتمع بين المواطنة السياسية التي يخضع لها جميع الأفراد في المجتمع، والمواطنة الثقافية، التي تميز موضوعياً الجماعات (الفرعية أو المختلفة) داخل ذلك المجتمع من الثقافة العامة، التي يشار إليها بـ (الثقافة الرسمية). فالمواطنة الثقافية تقتضي إذاً قبول الآخر عضواً في المجتمع مع احترام ثقافته الخاصة، ولا سيما لغته وطقوسه وعاداته وتقاليده، وتمايزه الإثني أو القومي أو الاجتماعي أو الديني أو الطائفي.

وباعتقادنا، فإن تمسك جماعة إثنية أو عرقية ما بهويتها الثقافية، المغايرة في مجتمع معين، هو حق مشروع يجب أن يصان بقوة. فمن المعروف أن علماء الأناسة (الأنثروبولوجيا) تواضعوا على مبدأ عام مفاده أن جماعات الأقليات التي تعيش في أي مجتمع، وتعد أعضاءها مواطنين في ذلك المجتمع، يمكنها الحصول لأعضائها على حقوقهم العامة كمواطنين كاملي المواطنة، وعلى اعتراف المجتمع والدولة بوجودهم ككيان متمايز داخل الدولة، وذلك بالعمل الجاد لأفراد هذه الأقليات على نشر خصائص ثقافتهم الخاصة ومقوماتها، والتعبير عنها بقوة ومثابرة بكل الوسائل إلى يتم تثبيتها في ذاكرة المجتمع، وبذلك يفرضون هويتهم الخاصة وذاتيتهم على المجتمع الكبير، بحيث يضطر في النهاية إلى تعديل مواقفه المعارضة ونظرته الرافضة (29).

 

الهوامش:

(24) علي خليفة الكواري، (مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية،) المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، ص 39.

(25) مسعود موسى الريضي، (أثر العولمة في المواطنة)، المجلة العربية للعلوم السياسية. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، العدد ،19 صيف ،2008 ص 114-115.

(26)  المصدر نفسه، ص116.

(27) عبد الإله بلقزيز، (دور الدولة في مواجهات النزاعات الأهلية)، الفصل الثاني من كتاب النزاعات الأهلية العربية الداخلية والخارجية، تنسيق د. عدنان السيد حسين (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط ،1 1997)، ص 77.

(28) انظر: السيد يسين: المواطنة في زمن العولمة، القاهرة، المركز القبطي للدراسات الاجتماعية2002،.

(29) مسعود موسى الريضي، (أثر العولمة في المواطنة)، المجلة العربية للعلوم السياسية، مصدر سابق، ص 119-120.

العدد 1105 - 01/5/2024