لماذا كان ماركس محقاً؟! (17)

إن رؤية المستقبل بهذا الشكل تقينا من أن نتصوّره بشكل خاطئ، وتحمينا مثلاً من أن نتبنّى وجهة النظر (التطوريّة) التي تعني ببساطة أن المستقبل أكثرُ بقليل من الحاضر، حاضرٌ منفوخ لحدٍّ ما. وهذه هي وجهة نظر حكّامنا عن المستقبل الذي سيكون أفضل من الحاضر، لكن باستمرارية مطمئنة حيث ستُحصر المفاجآت المزعجة في أضيق الحدود، وحيث لا يوجد صدمات نفسية ولا كوارث، بل تحسّن مستمر لما بين أيدينا الآن.

تمّ تداول وجهة النظر هذه حتى قبل وقت قصير على أنها (نهاية التاريخ)، إلى أن أعاد متطرّفون إسلاميّون للتاريخ دورانه. يمكن أن ننعت هذا التاريخ بنظرية أسماك الزينة التي تُشيع حلم حياةٍ مضمونة ولكنها مملّة، كما نتصوّر نحن حياة أسماك الزينة الذهبية. لا يمكن الحصول على تغيرات جذرية إلا بعد دفع ثمن الملل القاتل. لكننا لا ننتبه عندئذ إلى أن شيئاً واحداً هو الأكيد، حتى وإن كان المستقبل أسوأ من الحاضر، وهو أن المستقبل شي ء مختلف. وهذا هو أحد أسباب الفوضى العارمة التي حلّت بقطاع المال قبل عدة سنوات قليلة، إذ إن العاملين فيه اعتقدوا أن المستقبل سيكون إلى حدٍّ بعيد شبيهاً بالحاضر.

الاشتراكية، على العكس من ذلك، وإلى حدٍّ ما، هي قطيعة تامة مع الحاضر. يجب تحطيم التاريخ، ومن ثمّ إعادة بنائه. وليس ذلك لأن الاشتراكيين يحبون الدم ويرفضون كلَّ اعتدال، أو لأنهم يفضّلون الثورة على الإصلاحات، وإنما لأن المرض يسكن في عمق العمق، ولا يمكن شفاؤه بغير ذلك. أقول (التاريخ) في حين أن ماركس يرفض إطلاق هذه التسمية على كل ما حصل حتى الآن. فكلُّ شيء عايشناه حتى الآن هو (ما قبل التاريخ) عنده، أي أنواع من اضطهاد الإنسان واستغلاله. والفعل التاريخي والحقيقي الوحيد يكمن في أن نتحرّر من هذه القصة التعيسة، وأن ندخل التاريخ الحقيقي. وعلى الاشتراكيين أن يكونوا مستعدّين لإيضاح كيفية تحقيق ذلك، والمؤسسات اللازمة له ببعض التفصيل. ولكن إذا كان من الضروري أن يكون النظام الاجتماعي الجديد انتقاليّاً، فهذا يعني أن كلَّ شيء يمكن أن نقوله عنه سيخضع لقيود ضيّقة جداً، نظراً لأنه لا يمكن تحديد مفاهيم المستقبل إلا بالاستناد إلى ما تعلّمناه من الماضي والحاضر، والمستقبل الذي عليه أن يكون قطيعة تامّة مع الحاضر سيرهقنا جداً من الناحية اللغوية. كتب ماركس في (الثامن عشر من برومير) 9 تشرين الثاني 1799 وهو تاريخ الانقلاب الذي قام به لويس بونابرت، (برومير) هذا هو شهر الضباب كما كان يسمى في الجمهورية الفرنسية الأولى ويمتد من 22/10 حتى 20/11) تقريباً، إضافة من المترجم: (هنا، أي في المستقبل الاشتراكي، يتخطّى المضمون ظاهر القول. ويعبّر ريمون وليامز عن الفكرة ذاتها في كتابه (الثقافة والمجتمع):

(علينا أن نخطّط بقرار جماعي ما يمكنُ تخطيطُه. لكن إذا فهمنا مفهوم الثقافة حقَّ الفهم، علينا أن نعرف أن الثقافة في الصميم غير قابلة للتخطيط. علينا أن نهتم بالوسائل اللازمة للحفاظ على الحياة والعيش المشترك. لكن كيف سيُعاش بهذه الوسائل، فهذا ما لا نعرفه ولا نستطيع التنبّؤ به).

يمكن توضيح هذه الفكرة بشكل آخر. إذا كان كلّ ما حدث حتى تاريخه هو فقط (ما قبل التاريخ)، فمن المفروض أن يكون ذلك أسهل على الاستقراء من الفترة التي يعتبرها ماركس (التاريخ الحقيقي). واذا رسمنا في نقطة ما من التاريخ الحاصل حتى الآن مقطعا عرضيّاً، فإننا نعرف مسبقاً، وقبل التدقيق فيه، عدة أشياء سنجدها فيه، ومنها على سبيل المثال أن على أغلبية الرجال والنساء الذين يعيشون في تلك الفترة الزمنية أن يعملوا دون أجر لصالح النخبة الحاكمة. وسنجد أيضاً أن الدولة السياسية، مهما كان شكلها، مستعدة بين الحين والآخر لاستعمال القوّة من أجل المحافظة على الوضع القائم. كما سنجد أن جهداً فكرياً وثقافياً وأسطورياً كبيراً يُبذل في سبيل شرعنة هذا الوضع القائم. ومن المحتمل أن نجد أيضاً بين المستغلّين شكلاً من أشكال المقاومة ضد هذا الظلم.

أما ما قد يحصل عندما تُكسر القيود التي كانت تعيق انطلاق البشر، فهذا هو ما يصعب التنبّؤ به، لأنهم سيكونون أحراراً في التصرّف، كما يحلو لهم، ماداموا واعين لمسؤوليّاتهم إزاء بعضهم البعض. وإذا كان بإمكانهم، علاوة على ذلك، تخصيص جزء من وقتهم لنشاطات أوقات الفراغ، كما نقول في هذه الأيام، بدلاً عن العمل الشاق، لأصبح التنبّؤ بسلوكهم أكثر صعوبة. أكتب (كما نقول في هذه الأيام) لأننا لم نكن لنسمّي النشاطات التي كانوا يمارسونها بدلاً عن ذلك (أوقات فراغ)، فيما لو استخدمنا بالفعل الموارد المتراكمة التي أتاحتها الرأسمالية في تحرير عدد كبير من البشر من أعباء العمل، لأن فكرة (أوقات الفراغ) تتعلّق بوجود ضدّها (العمل)، كما لا يمكن تعريف الحرب دون معرفة معنى السلام. وعلينا ألا ننسى أيضاً أن ما يسمّى بنشاطات أوقات الفراغ قد تكون أصعب من العمل في المناجم تحت الأرض. وهذا ما أشار إليه ماركس ذاتُه.

قد يشعر بعض اليساريين بخيبة أمل عندما يسمعون أن عدم العمل لا يعني الاسترخاء والتدخين طيلة النهار.

لننظر الآن وبهدف المقارنة إلى سلوك المساجين. من الواضح أنهم يقضون وقت النهار بشكلٍ منظَّم،ويمكن للسجّانين أن يتنبّؤوا لحدٍّ ما بمكان وجود سجنائهم يوم الأربعاء في الساعة الخامسة، وإذا لم يستطيعوا ذلك فلا شك أن مدير السجن سيكون له معهم حديث. وعندما يُطلق سراح المساجين، فسيكون من الصعب مراقبتهم، إلا إذا مُهروا بعين مراقبة إلكترونية. وهذا يعني أنهم تخلّصوا من (ما قبل تاريخ) توقيفهم ودخلوا في (التاريخ الحقيقي) ويملكون الحرية لتقرير حياتهم بدلاً من أن يضطروا لإيكال هذه المهمة إلى آخرين.

الاشتراكية عند ماركس هي النقطة التي نبدأ فيها تقرير مصيرنا بشكل جماعي. وهذه هي الديمقراطية بالمعنى الحقيقي للكلمة بدلاً عن تلك الديمقراطية التي تنحطّ (عادة) إلى أضحوكةٍ سياسية. وواقع الحال أن البشر قد أصبحوا أكثر حرية، يعني أنهم لن يستطيعوا القول بسهولة أين سيتكونون في الساعة الخامسة من يوم الأربعاء القادم.

لن يكون المستقبل الآخر الحقيقي استمراراً للحاضر ولا هو قطيعة مطلقة معه. ولو كان تلك القطيعة، فكيف يمكن التعرّف عليه؟ ولو استطعنا وصفه بكلمات سهلة نسبياً من لغة حاضرنا، فبأيّ وجهة نظر سيكون المستقبل مختلفاً؟ إن مفهوم التحرّر الماركسي يستبعد الاستمرارية التامّة كما القطيعة التامّة. وبذلك يكون ماركس نموذجاً نادراَ جداً: إنه صاحب الرؤى، وهو في الوقت ذاته الواقعي الحصيف. فبدلاً من إعطاء التصوّرات عن المستقبل، كرّس كلَّ جهده لمشكلات الحاضر الواقعية، ويجد هنا تماماً ضالَّته لتشكيل مستقبلٍ واعدٍ جداً. وهو يرى الماضي أكثر قتامة من العديد من المفكّرين، و(يرى) قادم الأيام أكثر تفاؤلاً من أغلبهم.

الواقعية والرؤية تسيران هنا يداً بيد. رؤية الحاضر كما هو فعلاً، يعني رؤيته في ضوء إمكانات تغييره. وإلا لما استطعنا أن نراه على حقيقته، كما لا نستطيع أن ندرك كيف يكمن في الطفل الصغير الإنسانُ البالغ.

أنتجت الرأسمالية قوى وإمكاناتٍ هائلة، لكنها تكبحها في الوقت ذاته. ولهذا السبب استطاع ماركس أن يعلن عن آمال، من دون أن يصبح رسول تقدّم، وعن واقعية لا تبالي من دون تهكّم أو هزيمة. فالموقف المحزن يتطلّب فضح الأحوال السيئة ومن ثم التعالي عليها. وكما رأينا، كان ماركس مفكراً حزيناً ولكنه لم يكن متشائماً.

 

تأليف: تيري إيغلتون

العدد 1105 - 01/5/2024