مسألة المواطنة وأبعادها في الدولة العربية المعاصرة (2)

مفهوم المواطنة وأبعاده

تصف (دائرة المعارف البريطانية) (المواطنــة) بأنها (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق تلك الدولة…وأن المواطنة تدل ضمناً على مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات). وتخلص إلى القول بأن (المواطنة على وجه العموم تسبغ على المواطن حقوقاً سياسية، مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة) (8).

وتؤكد (موسوعة كولير) (الأمريكية) أن (المواطنة Citizenshipأكثر أشكال العضوية في جماعة سياسية اكتمالاً) (9).

ويطرح الباحثان داون أوليفرDawn Oliver)  ) وديرك هيترDerek Heater)  ) رؤية حول مقومات المواطنة، تتلخص بمايلي (10):

أولاً المواطنة تجسيد لشعب، يتكون من مواطنين يحترم كل فرد منهم الفرد الآخر، ويتحلون بالتسامح تجاه التنوع الذي يزخر به المجتمع.

ثانياً من أجل تجسيد المواطنة في الواقع، فعلى القانون أن يعامل ويعزز معاملة كل الذين يعدون بحكم الواقع أعضاء في المجتمع، على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو ثقافتهم، أو أي وجه من التنوع بين الأفراد والجماعات.وعلى القانون أن يحمي وأن يعزز كرامة الأفراد واستقلالهم واحترامهم، وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات على الحقوق المدنية والسياسية،وعليه أيضاً ضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الإنصاف.

كما أن على القانون أن يمكّن الأفراد من المشاركة الفعالة في عمليات اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات التي ينتمون إليها.

ويعرّف الدكتور محمد عاطف غيث في (قاموس علم الاجتماع) (11) (المواطنة) بأنها (مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين شخص طبيعي، وبين مجتمع سياسي (الدولة)، ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول الولاء، ويتولى الثاني مهمة الحماية. وتتحدد هذه العلاقة بين الشخص والدولة عن طريق القانون،كما يحكمها مبدأ المساواة). ويؤكد الدكتور غيث أن المصطلح يستخدم في علم الاجتماع (للإشارة إلى التزامات متبادلة من جانب الأشخاص والدولة، فالشخص يحصل على بعض الحقوق السياسية والمدنية نتيجة انتمائه إلى مجتمع سياسي معين، لكن عليه في الوقت نفسه أن يؤدي بعض الواجبات) (12).

وقد جاء في (موسوعة السياسة)، التي وضعها مجموعة من الباحثين والمتخصصين العرب(13)، تحت عنوان (المواطنة -المواطنية): أن (المواطنة هي صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى وطن، وأهمها واجب الخدمة العسكرية وواجب المشاركة المالية في موازنة الدولة).

وتضيف الموسوعة: أن (للمواطنية معاني متعددة، فهي بالمعنى السياسي تعني الحقوق التي يتمتع بها المواطن في نظام سياسي معين، كحق الاقتراع، باعتباره عضواً في المجتمع السياسي الذي هو المدينة. وإضافة إلى المؤشر السياسي لمعنى المواطنية، نجد مؤشرات أخرى مثل مؤشر الولادة، أي، أن المواطن هو ابن مواطن لم يحرم من حقوق المواطنة)، وهذا التعريف بالمواطنية هو الأقدم (كما تقول الموسوعة)، إذ كان يسمح للمدن القديمة بمقابلة عدد ضئيل من المواطنين مع عدد كبير من ساكني المدينة، وهذا المؤشر لا يزال حتى أيامنا الحاضرة يشكل أساساً لتحديد المواطنين بأكثريتهم الساحقة.

وهناك أيضاً مؤشر حقوقي، فالمواطن هو ذلك المعترف به مواطناً على مستوى القانون، وهو مؤشر موجود حالياً بأشكال متعددة للحصول على المواطنية. يضاف إلى ذلك المؤشر الاقتصادي أو بالأحرى المالي للمواطنية، الذي يفيد بأن المواطن هو الفرد الذي يتمتع بملكية محددة ويساهم في موازنة الدولة ضمن شروط معينة(14).

ويؤكد الباحث هاني لبيب، ضرورة توافر أساسين من أسس المواطنة، هما: المشاركة في الحكم من جانب، والمساواة بين جميع المواطنين من جانب آخر(15).

أما عبد الكريم غلاب، فقد ذهب إلى أن المواطن يأخذ جذوره من الوطن (في أوسع معانيه، الذي يمنح المنتمي إليه الإقامة، والحماية، والتعليم، والاستشفاء، والحرية، وحق الحكم والتوجيه، واستعمال الفكر واليد واللسان… وتلك حقوق يتيحها -ولا نقول يمنحها- الوطن للمواطن، من مدلولات الكلمة…) (16).

ويتوسع الباحث غلاب في مقاربته هذه، مؤكداً التقاء المفهوم الأسمى للمواطن مع المفهوم الأسمى للإنسان، (لينقل مفهوم المواطن إلى مفهوم أشمل وهو المواطنة)، فتصبح المواطنة إنسانية مضافاً إليها التعلق بشخص آخر يشاركه الوطن، ويقتسم معه مضامين (الوطن) و(المواطن).

ويرى عبد الكريم غلاب أنه (ليس أكثر دقة في هذا المفهوم من كلمة (المواطنة) في العربية، لأنها مفاعلة بين اثنين (الذين يصبحون عشرات أو مئات الملايين)، يتفاعلون حول الوطن، فيقتسمون كل الانتماءات وكل الحقوق والواجبات) (17).

ويربط غلاب بين المواطنة والوطنية، إذ يقول: إن الوطنية (تعني أن يكون المواطن مع وطنه في محنته كما كان وطنه معه في سرائه). وعليه أيضاً أن يراعي مصالح وطنه، وهو يتحرك (داخل أرض الوطن وخارجه)، مؤكداً أن (الوطنية هي التي انتصرت كلما تعرضت الأوطان إلى محن الحروب والجوائح والأوباء والأزمات الاقتصادية)، و(ستظل الوطنية طوق النجاة كلما حاقت بالإنسان والأوطان الأزمات المدمرة، مهما قيل عنها إنها متجاوزة، أو عاطفية بدائية تختفي تحت ضياء العقل والمعرفة، تكشفها العالمية والعولمة وشمولية الأممية والإنسانية) (18).

ونحن نتفق مع قول غلاب بأن (المواطنة لا تستقيم في مجتمع مختل التوازن)، إذ يفقد كل أفراد المجتمع، وبمختلف فئاته وشرائحه، مواطنيتهم تعبيراً عن كونهم (في المجتمع مختل التوازن) (لا ينتمون إلى وطن واحد، ولا يواطن أحدهم الآخر، تجمعهم الأرض ولا يجمعهم ما تتيحه الأرض للإنسان) (19). مشيراً إلى أن (البلاد التي استقامت فيها المواطنة بمفهومها الوطني والإنساني سارت الحياة فيها نحو الأسمى، ولا حد للسمو) (20).

ومما سبق يتضح أن مبدأ المواطنة كما استقر في الفكر السياسي المعاصر، هو مفهوم تاريخي شامل ومعقد له أبعاد عديدة ومتنوعة، منها ما هو مادي- قانوني، ومنها ما هو ثقافي- سلوكي، ومنها أيضاً ما هو وسيلة أو هو غاية يمكن بلوغها تدريجياً، ولذلك فإن نوعية المواطنة في دولة ما تتأثر بالنضج السياسي والرقي الحضاري.

إضافة إلى تأثر مفهوم المواطنة عبر العصور بالتطور السياسي والاجتماعي وبعقائد المجتمعات وبقيم الحضارات والمتغيرات العالمية الكبرى، ومن هنا يصعب وجود تعريف جامع مانع ثابت لمبدأ المواطنة.

لكن، على الرغم من صعوبة تعريف مبدأ المواطنة، باعتباره مصطلحاً سياسياً حياً ومتحركاً في سيرورة تاريخية مستمرة، إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن مصطلح المواطنة يمكن استخدامه دون دلالة محددة، كما يؤكد الدكتور علي خليفة الكواري (21). فهو مفهوم يتطلب وجوده إقرار مبادئ والتزام بمؤسسات وتوظيف أدوات وآليات، تضمن تطبيقه على أرض الواقع.

وإذا كان من المقبول أن تكون هناك بعض المرونة في التعبير عن هذه المتطلبات – من دولة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر- من أجل الأخذ في الحسبان قيم الحضارات وعقائد المجتمعات وتجربة الدول السياسية والتدرج في التطبيق، إلا أن تلك المرونة لا يجوز أن تصل إلى حد الإخلال بمتطلبات مراعاة مبدأ المواطنة كما استقر في الفكر السياسي الديمقراطي المعاصر، وما تم الاتفاق عليه من عناصر ومقومات مشتركة لا بد من توافرها في مفهوم المواطنة. وكذلك لا بد من وجود الحد الأدنى من الشروط التي تسمح لنا بالقول بمراعاة مبدأ المواطنة في دولة ما من عدم ذلك. وتشمل هذه الشروط إلى جانب الحقوق القانونية والدستورية وضمانات المشاركة السياسية الفعالة، الحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تمكّن المواطن من التعبير عن رأيه ومصالحه بحرية، مثل التقارب في الدخل والثروة والمكانة الاجتماعية والتعليم ومهارات الوصول إلى المعلومات البديلة، التي تسمح للمواطن بالحصول على المعلومات من مصادر مختلفة متنافسة. كما يجب أن تشمل هذه الشروط حداً أدنى من المسؤولية المجتمعية تجاه تنمية فرص العمل والرعاية الاجتماعية في حالة العجز والبطالة، ومن أجل التعليم والصحة والتنمية الثقافية.

ويلحّ علي خليفة الكواري على ضرورة التوافق المجتمعي على (عقد اجتماعي، يتم بمقتضاه اعتبار المواطنة وليس أي شيء آخر عداها هي مصدر الحقوق ومناط الواجبات بالنسبة لكل من يحمل جنسية الدولة دون تمييز ديني أو عرقي، أو بسبب الذكورة والأنوثة، ومن ثم تجسيد ذلك التوافق في دستور ديمقراطي) (22).

ويفرق الكواري بين الدستور الديمقراطي و(دستور المنحة)، إذ يرتكز أولهما (الدستور الديمقراطي) على خمسة مبادئ ديمقراطية عامة، أولها: لا سيادة لفرد ولا لقلة على الشعب، والشعب مصدر السلطات. ثانيها: سيطرة أحكام القانون والمساواة أمامه.

 ثالثها: عدم الجمع بين أي من السلطة التشريعية والتنفيذية أو القضائية في يد شخص أو مؤسسة واحدة. رابعها: ضمان الحقوق والحريات العامة دستورياً وقانونياً وقضائياً ومجتمعياً، من خلال تنمية قدرة الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني على الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان.

 خامسها: تداول السلطة سلمياً بشكل دوري وفق انتخابات دورية عامة حرة ونزيهة تحت إشراف قضائي مستقل، وشفافية عالية تحدّ من الفساد والإفساد والتضليل في العملية الانتخابية (23).

 

الحواشي:

(8)Encyclopedia Britannic, Inc, Ibid, vol.3, p.332.

(9)انظر: أحمد صدقي الدجاني، مسلمون ومسيحيون في الحضارة العربية الإسلامية (القاهرة: مركز يافا للدراسات والأبحاث، 1999)، ص 95.

(10) نقلاً عن علي خليفة الكواري:س مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية،سالفصل الأول من كتاب

(المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية)، علي خليفة الكواري (محرر)، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ومشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، ط،1 2001 )، ص 31.

(11)الدكتور محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979)، ص 56.

(12) المصدر نفسه.

 (13) انظر: موسوعة السياسة، تأليف مجموعة من الباحثين العرب، مدير التحرير ماجد نعمة، الجزء السادس (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط ،1 1990) ص 373-374.

(14)المصدر نفسه.

(15) انظر: مراجعة هاني لبيب لكتاب وليم سليمان قلادة، (مبدأ المواطنة: دراسات ومقالات)، المستقبل العربي، السنة ،23 العدد 255(أيار/ مايو 2000)، ص 245.

(16) عبد الكريم غلاب، أزمة المفاهيم وانحراف التفكير، سلسلة الثقافة القومية، 33 ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998)، ص 59.

 (17)المصدر نفسه، ص 60.

 (18) المصدر نفسه، ص 58.

 (19) المصدر نفسه، ص 65.

 (20) المصدر نفسه، ص 66.

(21)علي خليفة الكواري، )مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية(، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، علي خليفة الكواري(محرر)، مصدر سبق ذكره، ص 37.

(22)المصدر نفسه، ص 38.

(23) علي خليفة الكواري، حوار من أجل الديمقراطية(بيروت: دار الطليعة، 1995)ص 146-160.

 

العدد 1105 - 01/5/2024