وتبقى أيام الفرح مضيئة في الذاكرة.. 5 تموز 1973 تحويل مجرى نهر الفرات

ثلاثة وأربعون عاماً مضت ومازالت الذاكرة متوهجة بفرح الإنجاز التاريخي لبناة سد الفرات، الذي تمثل بتحويل مجرى نهر الفرات الذي تكوّن منذ نشأته وخلال ملايين السنين، إلى مجراه الجديد عبر فتحات المحطة الكهرمائية، وذلك في الخامس من تموز عام ،1973 ليتكرس عيداً وتاريخاً شامخاً في انصياع النهر لإرادة الإنسان السوري لما فيه مصلحة الوطن وبناء مستقبله، وأبنائه جميعاً، وليكون عيداً وطنياً للمهندس السوري ممثلاً لنجاح إرادته وإمكاناته وقدراته الإبداعية.

كانت مدينة الطبقة قد شهدت نشاطاً مركّزاً ملحوظاً منذ توقيع بروتوكول التعاون الفني بين حكومتي الجمهورية العربية السورية والاتحاد السوفييتي في 22/4/،1966 إذ جرى تأسيس المؤسسة العامة لسدّ الفرات وأوكل إليها تنفيذ مشروع سد الفرات بالأمانة، وذلك بالتعاون مع معهد هيدروبروجكت السوفييتي.

كانت أعمال التحرّيات الجيولوجية الهندسية قد أُنجزت وفق متطلبات التصميم، ومنها دراسة السيناريو الأمثل لعملية إغلاق مجرى نهر الفرات وفق المهمة الفنية التي وضعها المعهد المصمِّم، والمتمثلة بإعداد نموذج هيدروليكي تجريبي بمقياس 1:،25 في قاعدة مديرية التحريات والبحوث بالمؤسسة العامة لسد الفرات بالطبقة، حيث دُرست خيارات الإغلاق الممكنة، واعتُمد النموذج الذي جرى الإغلاق بموجبه.

عاشت الطبقة العاملة في سدّ الفرات أروع أيامها حشداً وتنظيماً وتعبئةً واستعداداً، وشارك في ذلك كل القوى الفاعلة في العمل، بدءاً من إدارة المؤسسة التي كان على رأسها المهندس المرحوم صبحي كحالة، وإدارة كبير الخبراء السوفييت التي كان على رأسها ستيبانوف، والتنظيمات السياسية والاجتماعية التي تمثلت بنقابتي المهندسين السوريين وعمال سد الفرات، ومنظمة الاتحاد النسائي السوري.

تصاعدت وتيرة الأعمال ليل نهار مع تناقص أوراق روزنامة العد التنازلي اليومي التي وضعت قبل مئة يوم من موعد الإغلاق، ووصلت إلى الصفر في الخامس من تموز 1973..نجحت المؤسسة في إنهاء الأعمال التحضيرية للاحتفال، ومنها إعداد المنصة الرئيسة المغطاة التي اتسعت لثلاثة آلاف زائر، وذلك بإطلالة رائعة من الكتف الأيمن للسد على موقع العمل والمشروع بكامله.

سبق الإغلاق أعمال تضييق مجرى نهر الفرات، وفتح ثغرات في سدود حماية موقع العمل أمام المحطة الكهرمائية وخلفها، وغُمرت بمياه النهر، ورافق ذلك برنامج مراقبة دقيق داخل جسم المحطة الكهرمائية لمراقبة أدائها بعد غمرها، استعداداً لمواجهة متطلبات إملاء البحيرة التي ستتشكل أمام السد بعد النجاح في عملية تحويل مجرى نهر الفرات، وإغلاق المجرى القديم، واستكمال إنشاء السد.

وصل السيد رئيس الجمهورية العربية السورية حافظ الأسد مع موكبه وضيوفه إلى مدينة الطبقة وكانت في أزهى حللها، تزينها أقواس النصر وعلم البلاد ولافتات الترحيب بالضيوف الكرام..آزرت الوفود العمالية العربية والدولية والإعلام التقدمي الاجتماعي ممثلاً بصحفي مجلة (الحياة العمالية) الناطقة باسم (الاتحاد الفرنسي للشغل) الطبقةَ العاملة السورية، وشدّت على أياديها في معركة البناء الذي كانت تشيده.

حدثت لحظة الفرح التاريخية، عندما عبر حشد العاملين سيراً على الأقدام بين ضفّتَي نهر الفرات لأول مرة في حياة ذلك النهر العظيم، مضيفين إلى حاضن أعرق حضارات الإنسانية معلماً جديداً يتباهى به أبناء سورية حاضراً ومستقبلاً. لعبت قيادة المؤسسة العامة لسد الفرات دوراً حيوياً في المشروع، ونجحت مع خبرائها السوفييت وطبقتها العاملة في التحدي.

كما كان للخبرة الأممية السوفييتية النزيهة دور بارز في إعداد مراحل العمل المختلفة، وقيادتها، ونقل المعارف والخبرات والمهارات الهندسية والعلمية المتنوعة ذات العلاقة بإنجاز المشروع إلى الجانب السوري، وكانت من أرفع المستويات فساهمت إيجابياً في مختلف أوجه بناء سورية لاحقاً. تحية للطبقة العاملة السورية التي شادت مدينة الثورة(الطبقة الجديدة )، ومشروع سد الفرات، وانتشرت لاحقاً مع قيادتها الهندسية في حوض الفرات لإنجاز مشاريع استصلاح الأراضي العملاقة، وفي مختلف مشاريع سورية الأخرى.

تحية لقادة المؤسسة العامة لسد الفرات الذين تعاقبوا عليها وهم: المرحومان المهندسان إبراهيم فرهود وصبحي كحالة اللذين قادا العمل في مرحلة التحريات وأعمال التصميم والتنفيذ الرئيسة. تحية إلى مهندسي المشروع وفنّييه وجهازه الإداري والمالي المتميز آنذاك.

تحية للخبراء السوفييت وعلى رأسهم كبير الخبراء ستيبانوف، الذين كانوا شمعة التضحية والعطاء الأممي الرائع بنزاهته ومستواه ونبله، وأستأذن القارئ في أن أشيد على وجه الخصوص بكبير الجيولوجيين السوفييت الرفيق إيفان سرجي تشوماكوف وخبرائه الطبوغرافيين ومهندسيه الجيولوجيين ومخبرييه الذين كانوا من أوائل رواد قرية الطبقة، قبل أن تبدأ أعمال الإنشاء في المدينة، وتحمّلوا، مع إخوانهم السوريين طلائع العمل في التحريات، شظفَ العيش مع رعب الثعابين والعقارب وأخطار فيضان النهر العظيم.

تحية لقادة العمل النقابي والاجتماعي الذين واكبوا متطلبات العمل في تحويل مجرى نهر الفرات، وإنجاز الأعمال وفق البرنامج المعتمد للمشروع، ومؤشرات الكشف التقديري، وتحقيق أعلى متطلبات الجودة الفنية للأعمال المنفذة، والتي يشهد عليها شموخ سد الفرات بكبريائه وعنفوانه. ومن المؤكد أن ما ألمّ به حالياً، إنما هو قضية عابرة لأنها معاكسة لسيرورة الحياة وناموسها وقانونها الطبيعي، إذ سيندحر الإرهاب والتطرف وسينهزم التخلف والظلام، وستعود الطبقة علامة شامخة للنهوض والبناء والشروق والنور الساطع على نهر الفرات العظيم.

المجد والخلود لشهداء الطبقة العاملة السورية والسوفييتية الذين قضوا في المشروع ودفعوا أرواحهم ثمناً في العمل.

العدد 1105 - 01/5/2024