مسألة المواطنة وأبعادها في الدولة العربية المعاصرة (5)

مبدأ المواطنة في الفكر العربي المعاصر

أثارت الأبحاث والمناقشات المتصلة بهذا الموضوع ثلاث إشكاليات: الأولى تتصل بالوجود التاريخي العربي في علاقته بالأقليات، والثانية تهتم بخصوصية الأقليات العرقية، والثالثة مدارها اضطهاد الأقليات.

–    في الإشكالية الأولى، يرى عوني فرسخ أن الجدل لا يدور عادة حول أصالة الأقليات العرقية، وإنما حول أصالة الوجود العربي ذاته في مواطن الأقليات. وحجة المجادلين بهذا الاتجاه تستند إلى كون العرب هم الفاتحين، وهم الذين أعطوا عديد المناطق المفتوحة هويتها العربية، (وهم بالتالي أحدث عهداً خارج الجزيرة العربية من غيرهم، وتأسيساً على ذلك، فالعرب هم الوافدون وغيرهم أصحاب الديار والورثة الحقيقيون لمدنياتها القديمة) (43).

ولمواجهة هذه الأطروحات حرص الفكر القومي على إبراز الهجرات العربية السابقة للفتح، وإلى التذكير بأن شعوب الهلال الخصيب ووادي النيل والشمال الإفريقي تعود جذور غالبيتها إلى جزيرة العرب، وتجمعها مع العرب قرابة جنسية ولغوية (44). فقد كانت للعرب قبل الإسلام صلات تاريخية واقتصادية واجتماعية وثقافية بالمناطق المجاورة لجزيرتهم سابقة على الفتح العربي-الإسلامي بعدة قرون، إذ (تشير وقائع التاريخ إلى أن أهل مصر الأصليين (الأقباط) قد عرفوا العرب قبل ظهور الإسلام بأمد طويل. فقد هاجرت طلائعهم واستوطنت سيناء، كما استوطنت إقليم الشرقية، وعلى سبيل المثال في القرن الثالث الميلادي دخلت إليها جيوش (الزباء) (ملكة تدمر) وحكمتها ونصبت ابنها ملكاً على البلاد، كما كانت تقيم في الإسكندرية عند الفتح العربي جالية عربية ثرية) (45).

أما العوامل الثقافية بينهم وبين مصر فتعود- تبعاً للباحث نفسه- إلى ما قبل الإسلام أيضاً، فقد كان للكنيسة المصرية امتداد في الجزيرة وفي فلسطين، كما كان بين كنيسة الإسكندرية وكنيسة أنطاكية حلف متين في مواجهة بيزنطة.

ويذكر أبو سيف يوسف أنه لما استتب الحكم العربي في مصر ودخل المصريون في الإسلام اتخذ الأقباط العربية (لغة حديث ومصطلح حضارة)، وحافظوا على عناصر ثقافية عديدة كانت إرثاً مشتركاً بين المسلمين والأقباط. ولم تؤد عملية التعريب والأسلمة إلى عزل الأقباط أو انعزالهم، بل إنهم (عاشوا مع المسلمين في مجتمع (طبيعي) يتكون من طبقات اجتماعية، وهو الأمر الذي أدى إلى أن تأخذ الصراعات ذات الطابع الاجتماعي (الطبقي) أولوية على غيرها من الصراعات ذات الطابع القبلي أو الديني أو الطائفي) (46). وتنسحب هذه الملاحظة على الأقليات البربرية في المغرب العربي(47).

وفي السياق والتوجه ذاته يؤكد عوني فرسخ أن ظاهرة التمازج الجنسي والثقافي كانت ظاهرة عامة شملت أغلب المناطق المفتوحة، حيث تفاعل عرب الفتح مع الشعوب المفتوحة (فغيروهم وتغيروا معهم أيضاً) (48).

وقد تمخض عن عملية التفاعل تركيب بشري جديد، لا يمكن أن يتميز فيه عرب الفتح من غيرهم، أو نسبة هذا التركيب إلى أحدهما دون الآخر (49).

والملاحظ أن كتابات القوميين سعت وتسعى إلى إثبات أن عملية تبلور الأمة العربية جاء على أساس التفاعلات الحضارية والتمازج العرقي بين الفاتحين وأصحاب الأرض، الذين أصبحوا بعد التلاقح جزءاً من التركيبة السكانية الجديدة، وبالتالي فإن العرب المعاصرين يضربون بجذورهم في أعماق كل بلد عربي، وهم بسبب ذلك أصليون وأصحاب تراث وليسوا دخلاء ولا وافدين.

–    الإشكالية الثانية: موضوعها (خصوصية الأقليات العرقية). ومصدر هذه الإشكالية تأكيد عدد من الأبحاث والدراسات والمقالات أن الأقليات وخاصة العربية منها ذات أصول جنسية مختلفة عن أبناء الأمة العربية. ويرفض القوميون العرب هذه الأطروحات لقناعاتهم بأنها تخالف حقائق التاريخ ومعطيات الواقع الاجتماعي، وقدموا أدلة وشواهد من تجربة الأقليات في الأقطار العربية المختلفة (مصر، لبنان، المغرب) تبين بشكل جلي أن (لا خصوصية لأبناء الأقليات، وأنهم مندمجون لغة وثقافة وسلوكاً في النسيج الاجتماعي العربي)، وفي ذلك يقول محمد عابد الجابري بشأن البربر: (البربر في المغرب لا تنطبق عليهم مقولة (الأقلية)، فهم ليسوا أقلية، لا عددياً ولا اجتماعياً ولا إثنياً. في المغرب العربي لا توجد أقلية دينية، فجميع السكان مسلمون وليس هناك تمييز لا في كلام الناس ولا في وجدانهم وتصوراتهم بين (العربي) و(المسلم)، وهذه المسألة أصبحت اليوم معروفة) (50).

أما بخصوص (سكان القبائل) بالجزائر، فقد قلل الجابري من أهمية (مطالبهم الثقافية)، مؤكداً عدم جواز وضع البربر في بلدان المغرب العربي ضمن علاقة عروبة/ إسلام، ولا في بند واحد مع الأكراد، وغير المسلمين في جنوب السودان، بل إنه ذهب إلى أكثر من ذلك حين ذكر أن عبارة (الأقليات في الوطن العربي) بحد ذاتها ليست ذات معنى أو على الأقل سابقة لأوانها، وذلك لأن كل قطر عربي تقريباً فيه أقلية ما، فالأكراد أقلية في العراق وليسوا أقلية في (الوطن العربي) (دون أن يشير إلى الأكراد في سورية، الذين يشكلون أكثر من 10% من سكان سورية/ خ.ج)، والموارنة أقلية في لبنان، وليسوا في (الوطن العربي). ويتساءل الجابري باستنكار: (فلماذا تضم هذه الأقليات بعضها إلى بعض لنجعل منها أقليات في الوطن العربي؟) (51). وحجة الجابري في ذلك أن عبارة (الأقليات)، لن يكون لها معنى إلا إذا نشأت دولة واحدة للأقليات عن مجموع (الوطن العربي). أما قبل ذلك، فالعبارة، في رأيه، لا تعبر عن مضمون حقيقي، وهي مضرّة. وبدلاً عنها يشير الجابري إلى    (ظاهرة) الأقليات وليس إلى (مشكلة) الأقليات، التي يجب أن تبحث في إطار التعددية الإثنية والدينية واللغوية. ويربطها بقضية الديمقراطية لا بقضية عروبة/ إسلام، ذلك أن الأقليات في الوطن العربي لا ترفض العيش في دولة الوحدة، ومن هنا فالطرح الإيجابي والسليم للمسألة هو (الديمقراطية في الوطن العربي). أما التفكير في (الوحدة) من منطلق مشكل الأقليات، فهو إفساد لهذا التفكير وتخريب له (52).

والواقع أن الجابري يمثل تياراً واسعاً من المفكرين والباحثين القوميين، الذين ينكرون (بدرجات مختلفة) وجود (أقليات) أو (مشكلة أقليات) في الوطن العربي، مقللين من شأن هذه المسألة الحساسة والمعقدة،مكتفين باعتبارها (ظاهرة) ثقافية أو اجتماعية، ضمن التعددية الثقافية-الحضارية للأمة العربية. ويرى مؤيدو هذا الاتجاه (الإنكاري الرافض) أن طرح (مشكلة الأقليات في الوطن العربي)، في الظروف الراهنة، يهدف إلى تحقيق مآرب وأهداف سياسية خطيرة، يأتي في طليعتها تفتيت الأمة العربية، لصالح القوى الاستعمارية، الطامعة في موقع العرب الاستراتيجي الهام وثروته النفطية الهائلة، وخلق كيانات هزيلة تابعة ومعادية للأمة (كما حصل في جنوب السودان مثلاً).

ويتفق مع هذا الطرح الإنكاري المتشدد لتمايز الأقليات الإثنية أو العرقية، الباحث عوني فرسخ، الذي يقدم ست (حقائق تاريخية) لدعم ما ذهب إليه لإثبات صلة الأقليات العضوية جنساً وتراثاً بالأمة العربية،وملخصها كما يلي(53):

1-  الدماء التي تقول الأقليات بالتفرد على أساسها تجري في العروق العربية ولو بمقدار، والتراث الذي تعتز به هو من بعض موروث الأمة العربية.

2-  لا تتميز الأقليات، في الغالب، سواء في تقاليدها وسلوكها أو قيمها عن الأمة العربية، فهي متأثرة منذ الفتح بقيم العرب وعاداتهم ومنتمية إلى الحضارة العربية- الإسلامية.

3-  تتفاعل هذه الأقليات بعمق وشمولية مع المحيط العربي، بما لا يميزها بشيء من الأكثرية، وانتماؤها إلى الأمة كان على أساس حضاري وليس على أساس جنسي-عرقي.

4-  استخدمت الأقليات اللغة العربية أداة للتعببر،فهي اللغة الأم ثقافياً، في حين حضرت اللغة التراثية في استعمالات دينية ومنزلية محددة.

5-  انعدمت الأسس المادية الدافعة إلى الحقد والثأر بين الأكثرية العربية والأقليات العرقية، فقد كان الفتح بمثابة (حركة تحرير) . وقد شاركت الأقليات العرقية الأمة العربية وحدة التاريخ والمصير.

6-  برزت نخب الأقليات العرقية الأصلية في الحياة العربية إبداعاً وبطولة (54).

والنتيجة التي استخلصها فرسخ استناداً إلى هذه (الحقائق) أن الأقليات العرقية هي جزء من النسيج الاجتماعي والحضاري العربي، وبالتالي، فـ (ليس من العلمية في شيء الادعاء بتمايز قومي لهذه الأقليات عن الأمة العربية) (55).

– الإشكالية الثالثة: تتعلق بـ (اضطهاد الأقليات في المجتمع العربي_الإسلامي)، حيث اختلفت آراء المؤرخين حول امتيازات عرب الفتح ونظام (أهل الذمة). فمنهم من حاكمهما بالاستناد إلى قيم العصر الحديث ورأى فيهما مظهرين لتمييز عرقي وديني، واحتج على ذلك لتفاسير خلافية لبعض الآيات القرآنية وعينة من المعاملات غير الإنسانية والظرفية تجاه الأقليات، ومنهم من نظر إليهما في سياق الوضع التاريخي عندئذ، فكان أكثر موضوعية، بل وجد في نظام (أهل الذمة) (إبداعاً وفتحاً في الفكر الإسلامي).

 

الهوامش:

(43)  عوني فرسخ، (الأقليات في الوطن العربي: تراكمات الماضي وتحديات الحاضر، واحتمالات المستقبل) المصدر السابق، ص 38.

(44) لمزيد من التفاصيل، انظر: عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1984).

(45) أبو سيف يوسف، الأقباط والقومية العربية: دراسة استطلاعية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987) ص 129.

(46) المصدر نفسه.

(47) انظر: محمد عابد الجابري، (حول الحوار القومي-الديني) ورقة قدمت إلى:الحوار القومي-الديني: أوراق عمل ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية 1989)، ص 72.

(48) عوني فرسخ، (الأقليات في الوطن العربي: تراكمات الماضي، وتحديات الحاضر، واحتمالات المستقبل)، المصدر السابق، ص 38.

(49) المصدر نفسه، وانظر كذلك:سمير عبده، دور المسيحية في الحضارة العربية-الإسلامية (دمشق: منشورات دار حسن ملص، ط،1 2005).

(50) محمد عابد الجابري، (حول الحوار القومي-الديني)، المصدر السابق، ص 72.

(51)  المصدر نفسه.

(52) المصدر نفسه، ص 74.

(53)  انظر: الدكتور الطاهر المناعي، الخطاب القومي العربي المعاصر، ص 354-355.

(54) للاطلاع على التفاصيل، انظر: عوني فرسخ، (الأقليات في الوطن العربي: تراكمات الماضي، وتحديات الحاضر، واحتمالات المستقبل)، مصدر سابق ص 39-40.

(55) المصدر نفسه، ص 45.

العدد 1105 - 01/5/2024