حدث في حزيران!

ذلك اليوم الذي ركضت فيه مع عمار..

ركضنا معاً.. أنا وعمار.

وعمار لم يعد يذكره الكثيرون من الأصدقاء، لا لأن ذاكرتهم متآكلة أو مهترئة أو حتى ضعيفة، بل لأن أسماء الشهداء ملأت كل شيء من حولنا، صرنا نكتبها على الجدران، فضاقت بها الجدران، وكان لابد أن ينشأ نوع من الاتفاق الوطني بين السوريين: دعونا نكتب أسماء الشهداء في القلب.. في القلب أحسن!

كان ذلك في حزيران عام ،1967 ركضت معه إلى مركز التسليح في الجسر الأبيض، ووقفنا في الطابور الطويل، فكل السوريين كانوا يريدون مقاومة إسرائيل التي فاجأت مصر بضرب مطاراتها، واعتدت على سورية واحتلت مرتفعات الجولان والقنيطرة!

عندما جاء دورنا، لم يعط الضابط المسؤول عن التوزيع بندقية لي، ولا لعمار. أجابنا بعبارة واحدة:

– لا يعطى السلاح إلا لمن وصل إلى سن الثامنة عشرة من عمره!

كسر الضابط بخاطري، وكسر بخاطر عمار، تلقينا الجواب بحزن، ثم عدنا معاً إلى حارتنا، بخفَّي حنين، وكل منا يحلم ببندقية يقاتل بها إسرائيل!

اجتمعنا في الحارة. حصل شباب الحارة على ثلاثة بنادق، ورشاش (شباكن). ووجدت عمار يتملق صديقنا عبد القادر الذي استلم الرشاش. كان يرجوه أن يبقي الرشاش معه، ولو دقيقة واحدة، فلم يقبل.. لم يقبل عبد القادر، فازداد عمار حزناً!

بعد سنوات، التحق عمار بالجيش متطوعاً. وسريعاً شاهدته ضابطاً، كان باسم الوجه. وكان حريصاً على أن يذكّرني بقصة (كسر الخاطر) التي تعرضنا لها أنا وهو في عام .67. كان بهيّ الطلعة، طويل القامة، يليق به اللباس العسكري. ارتسمت على وجهه ملامح طفل يرتدي ملابس ملازم في الجيش، فقلت له:

– إذا أعطوك بندقية، هل تبقيها معي ولو دقيقة واحدة؟!

وضحكنا، وكأننا استعدنا ذكرى نكسة حزيران.. ومنذ تلك اللحظة لم أعد أراه!

كثيرون لم يعودوا يذكرون عمار، ذهب إلى لبنان مع الجيش في حزيران آخر.. حزيران يعود لعام ،1982 أي بعد نحو خمسة عشر عاماً، وهناك عاش القصة التي جعلته شهيداً.. نعم، في حزيران من ذلك العام شنت إسرائيل حرباً ضروساً على لبنان.. دخلت بجيشها من الجنوب في خطة أعلنت عنها تحت عنوان سلامة الجليل، وكانت تهدف إلى إبعاد المقاومة الفلسطينية عن حدود فلسطين الشمالية.

وقاومها الجميع، إلا أن قواتها تمكنت من اجتياح لبنان وصولاً إلى بيروت، حيث حاصرت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية..

كانت القوات السورية موجودة في لبنان في البقاع تحت غطاء قوات الردع العربية، ومن الطبيعي أن يشارك الجنود السوريون في الدفاع عن لبنان..

كان ذلك حزيران آخر، لكنه لم يكن نكسة..

لم يكن سهلاً على إسرائيل أن تجتاح لبنان دون مقاومة ضارية حصلت فعلاً، وشارك فيها الجميع حتى أطفال لبنان وفلسطين.. في معركة السلطان يعقوب عند تخوم الجنوب اللبناني تلاحم الجيش السوري مع دبابات الجيش الإسرائيلي المتقدمة، فهزمها، ودمر أحدث الدبابات فيها، ولم نكن نعرف أن عمار هناك.. لم نكن نعرف أبداً أنه سيكون مع إخوته الجنود واحداً ممن يعرفون معنى قتال إسرائيل في لبنان، كان يدافع عن كرامة أمة كاملة..

هناك.. سقط عمار شهيداً!

في كل حزيران أستعيد الحكاية: حكاية البندقية التي حلمت بها وحلم بها عمار، وكان الحلم دائما يجعلني أتذكر استشهاده، وفي صورة استشهاده ترتسم صورتنا معاً عندما ركضنا أنا وهو لنقف في الطابور من أجل الحصول على بندقية!

العدد 1104 - 24/4/2024