شركات التسويق الخاصة… وإدمان المال

في سورية أصبح حلم الشباب والشابات الحصول على عمل، فالبطالة أصبحت مستنقعاً يصعب الخروج منه، يغرق الجميع، لا شهادة جامعية تساعد ولا مهارة فنية أو يدوية تنقذ، والكل يحاول النجاة بنفسه، وهنا تأتي بعض الشركات الخاصة التي تلبس زيّ المنقذ لتبهر أنظار الناس وتجذب الجميع، ولكنها في حقيقة الأمر المستفيد الوحيد، ولأنها تحاول جاهدة أن تحقق أكبر استفادة ممكنة فإنها ترمي سهامها نحو الشباب صغار السن والفتيات على وجه التحديد، مما اضطر الكثير من الشابات، تحت ضغط الأعباء المادية والصورة الناصعة لبعض الشركات، للقبول بأي عمل متاح حتى ولو كان يحمل في طياته الكثير من المشقة، مثل عمل مندوبي المبيعات الذي يعرضهنّ لضغوطات وإزعاجات لا تنتهي على مدار اليوم.

فما الذي يمكن أن تتعرض له الفتاة في مثل هذا العمل؟ وما الذي يحويه من خداع وتشويه للحقائق؟

الثوب الخادع

تقوم الشركات باستدراج الفتيات للعمل، من خلال مختلف وسائل الإعلان من ملصقات طرقية وصحف إعلانية وحديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، واستمالتهنّ بأجور مرتفعة، لاستقطاب الباحثات عن عمل بأعداد كبيرة، بذريعة أن هذه الشركات تريد أن تفتتح فروعاً جديدة فهي بحاجة لزيادة الكادر الإداري لديها، فغاية الشابات في النهاية الحصول على وظيفة براتب محترم، وفي شركة مرموقة، يلي ذلك المقابلة التي يبدأ من خلالها الحديث عن الصفات المثالية للشركة، وسرد أفضل الميزات لرسم الصورة الخلابة لها، من علاقات طيبة تسود جو العمل وحوافز تشجيعية ومكافآت سخية، وعبر هذه الخطوات تكون قد تحققت مرحلة الإقناع بنجاح.

ليست كما تبدو

لا شك أن الموضوع يصبح شديد الصعوبة، فالشركة تقوم برسم صورة متألقة وبراقة عن نفسها، لذلك يجب أن تكون الفتاة دقيقة الملاحظة لكي تكشف تزييفهم، وتدرك مآربهم، في استغلال حاجة الفتاة إلى العمل، والمال، ووعدها بعمل إداري محترم، ولكي تنال ذلك عليها تجاوز اختبار تتفاوت مدته بين شركة وأخرى، وهذا الاختبار عبارة عن العمل كمندوبة مبيعات، لمدة تقارب 15 يوماً، وستكون قيد التدريب، والتمرين عبر عدة مراحل، يخبرونها بها بالتدريج.

بدايةً على الفتاة أن تقوم بمراقبة مندوبة المبيعات التي تعمل على تدريبها، وملازمتها يومين أو ثلاثة، وبعد ذلك سيجري إقناع الفتاة بأن تقوم بعملية البيع وحدها، فيرسلون الفتيات إلى مناطق بعيدة، وغير معروفة للمُتدربة، وأخيرا يكون قد آن الأوان، ليجعلوا منها مُدربة لفتاة أُخرى جديدة لتعليمها كيفية الترويج للمنتج، وأساسيات الإقناع، بذريعة أنهم يريدون أن يختبروا فيها مهارات الفتاة القيادية، وقدرتها على الإقناع والتسويق وفهم حيثيات عمل الشركة بالكامل، وإن نجحت بهذه المراحل تكون قد انتقلت إلى القسم الثاني، الذي يكون إما أن تظهر فيها الحقيقة أمامها، وتكتشف الخدعة بعدم وجود أي عمل إداري، وترحل خالية الوفاض، أو تقبل بالعمل مندوبة مبيعات، لصالح الشركة، وفي كلتا الحالتين تكون الشركة هي المستفيد الأكبر.

سهم في الصميم

رغبةً منا في توضيح ملابسات الأمر، وكشف تفاصيل الموضوع، جرى (زرع) إحدى الفتيات، بهذه الشركات للانخراط داخلها، وملاحظة الواقع المجهول والأليم، لمثل هذه الأعمال التي تستغل الفتيات. لذلك وقع الاختيار على ثلاث شركات، وهي جميعها شركات معروفة نظراً لاستخدامهم لأعداد كبيرة من الفتيات، بهذا المجال، ونشرهن في الأشهر الماضية لكثير من إعلانات فرص العمل، لشواغر إدارية في الشركة. ومن الملاحظ، استخدام هذه الشركات صياغة إعلانية واحدة تقريباً، فيها ما يكفي من ميزات العمل المحترم، كما ذكرنا سابقاً.

ما وراء الأكمة

بعد القليل من التدقيق والمتابعة تبين أن الغاية الأساسية للشركة، تتمثل بجعل هؤلاء الفتيات، يعملن على تسويق منتجات الشركة وبيعها ، بجعلهن يعملن مندوبات لفترة قصيرة، ونظراً لمشقة عمل المندوبة، لا تستمر الفتاة الجديدة بهذا العمل إلا لعدة أيام أو لأسبوع، بأحسن الأحوال، وتعود إلى بيتها منهكة، خائرة القوى، وبلا أي فائدة تذكر، فالفائدة كلها للشركة، التي قامت باستنزاف طاقة الفتاة واستغلال طيبتها، وحاجتها إلى العمل، وبهذا تكون الشركة قد سوقت من خلال الموظفة الجديدة، لمنتجاتها وباعت سلعها عن طريقها، وحققت أرباحاً من دون أن تدفع أي أُجور، أو تكاليف… هذا في الحالة الأولى، أما في الحالة الثانية، وهي أن تستمر الفتاة بالعمل، فيكون هناك عقد تعسفي، ومجحف بحقها، فيصبح عليها تحمل العمل بدوام طويل لا يقل عن عشر ساعات، إضافة إلى تحقيق نسبة مبيع، وهو ما لا يتحقق بنسب مرتفعة في كل يوم، فالفتاة تتحمل استغلال مديرها، وتجريحه المستمر لها، واغتصاب حقها، كما تضطر أن تصبر على استعمال العنف اللفظي ضدها، وما يتخلله من كلمات وألفاظ نابية، ببساطة يقوم مديرو هذه الشركات باستعباد الفتاة واستغلال حاجتها إلى المال والعمل، وفي مقابل ذلك يفرض عليها عقد ظالم بين طرفين رضي أحدُهما قسراً القبول به – بسبب الظروف التي تمر بها الفتاة بشكل خاص، و البلاد بشكل عام – ورغبةً بالحصول على على دخل مادي مستمر، يساعدها على تأمين مستلزمات عيشها، وقوت يومها. بالطبع نحن لا ننفي وجود بعض الشابات، اللواتي لديهن الرغبة بالعمل كموظفة تسويق (مندوبة مبيعات) ولكن أعدادهنّ قليلة.

سعياً إلى رغيف خبز

بعد تكوين علاقات طيبة مع المندوبات، تمكنا من تبيان أبرز المبررات التي يمكن أن تجعل الفتاة تتحمل غضب مدير الشركة، وقسوته وغطرسته. فعندما سُئلت بعض الفتيات، عما إن كانت عائلاتهنّ على دراية بطبيعة عملهنّ، كانت الإجابة بالنفي، وأنهنّ لا يرغبنّ بإخبار أُسرهنّ بالأمر، لأن ذلك سيسبب لهم بعض الخوف والحزن، وهم لن يقبلوا أن تتعرض بناتهنّ لهذا القدر من التعب، والإجهاد في العمل، وتحمّل الإهانة من قبل المديرين المجحفين، الذين لا يريدون سوى المال، وزيادة المبيعات حتى على حساب شقاء هؤلاء الشابات ، ومعاناتهن واستغلالهن.

قالت إحدى الفتيات: منذ وفاة والدي وأنا المسؤولة عن عائلتي، مشاكل وهموم البيت كلها باتت على عاتقي، لو لم أكن بحاجة إلى المال لما بقيت دقيقة واحدة في هذا العمل الذي أُنهك به في حين يعيش مديرو الشركات مرفهين. وأُخرى تقول: لم يعد باليد حيلة، سوى القبول بالعمل، وتحمل مشقاته، إن لم أعمل سأبقى بلا دخل مادي، ويمكن أن أضطر لتغيير البيت الذي يؤويني وأُسرتي، فزوجي لا يعمل منذ أكثر من عامين، ولدي طفلان صغيران، وأصبح علينا ديون كثيرة نحاول سدادها.

وغيرها الكثير من الأسباب، هذه التي تريد تخفيف حمل النفقات عن عائلتها، ومساعدتهم بالمصروف، وتلك التي تريد على الأقل أن تؤمن مصروفها الشخصي، والكثير الكثير من الأسباب التي لا تنتهي، إن نظرنا من حولنا قليلاً لتبيناها، وقدّرنا حجم المعاناة، والألم الذي قد تجسد في قول إحداهنّ: (لقمة مغمسة بالدم).

مستنقع الواقع

بعد معايشة عمل هؤلاء الفتيات، لاحظنا كم المعاناة والألم من سوء المعاملة، في هذه الشركات، و نظراً لظروف الحرب التي تمر بها بلادنا فقدت الكثير من العائلات معيليها، مما سبب بزيادة نسبة الفتيات العاملات، أضعافاً مضاعفة عن السابق، ونلفت الانتباه إلى أن الفتيات أصبحن يعملنّ بشتى أنواع الأعمال التي لم تكن سابقاً مقبولة للشابات، فلا يوجد فيها عقود، ولا تأمين، ولا ضمانات تحميها من براثن الانتهازيين والمستغلين.

وهنا للأسف السؤال الذي لابد منه: ألا يجب تأمين أعمال تناسب طبيعة المرأة وتكوينها الجسدي والنفسي، ولا تجحف بحقها، وتؤمن لها معيشة كريمة بلا إهانات ومعاناة؟ أليس من المفروض أن يكون هناك مراقبة لعمل هذه الشركات، لضمان حق الفتيات، ومحاسبة الشركات الاستغلالية، والانتهازية؟

وأخيراً أليس من الأجدى أن نفكر قليلا كم بات المجتمع السوري مليئاً بمثل هذه الحالات؟ وكم باتت أخلاق بعض الناس في التعامل مجردة من الرحمة والإنسانية؟ وكم أصبحنا بحاجة أن نلتزم بالسلوك الجيد والسوي، وأن ننشر، ونتعلم، ونطبق المعاملة الحسنة، والأخلاقية بين الناس، وعدم استغلال حاجات الآخرين للوصول إلى غاياتنا الدنيئة؟ وأن نفكر ليوم واحد فقط بشيء آخر غير ملء جيوبنا بالمال وأن نحاول أن نملأ قلوبنا بالإحساس بالأخرين وتحقيق بعض العدالة الإنسانية التي تضمن العيش الكريم، وأن ندعم شباب وشابات اليوم لكي لا يبقوا حبيسي الفراغ، والضياع، والإحساس بالعجز، الذي ينهش نفوسهم.

لقد أصبح المال سيد القوم يوجههم كما يريد، وكل من أراد الوصول إليه عليه أن يضحي بتربيته وأخلاقه ويدمر كل ما يقف أمامه من قيم حميدة ومبادئ سامية ويستغل كل شيء في سبيل ذلك، فحب المال كالإدمان الذي يدفع الإنسان للتخلي عن إنسانيته التي من دونها، سنعيش في غابة لا في مجتمع متحضر، كما ندعي.

العدد 1105 - 01/5/2024