مسألة المواطنة وأبعادها في الدولة العربية المعاصرة (4)

مبدأ المواطنة في الفكر العربي المعاصر

معروف أن المفكرين الإسلاميين المتأخرين اتجهوا إلى التأكيد (والتركيز) على اعتبار المجتمع الإسلامي هو الموئل الأساس للولاء التام وقاعدة العمل السياسي. وقد رفض المتشددون، من أمثال أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، الحلول المبكرة، وجادلوا باقتصار المجتمع على المسلمين.

وطبقاً لهذه النظرة لا توجد مشكلة مواطنة لغير المسلمين ولأجلهم فقط. وإذا كان المودودي أشار لاحقاً إلى (حقوق غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية)، إلا أنه عاد وكرر الرأي التقليدي بأن باستطاعتهم (العيش كأقليات تحميها الدولة الممثلة للجماعة الإسلامية)، وبالتالي (لا يحق لها تبوؤ المراتب المركزية فيها وبالأخص المناصب القيادية وعضوية مجلس الشورى الذي ينتخب رئيس الدولة (30).

وجدير بالذكر أن مصطفى مشهور، المرشد العام الأسبق للإخوان المسلمين في مصر، أثار عاصفة هوجاء عندما صرح في مقابلة صحفية في عام ،1999 أنه لا ينبغي للمسيحيين الدخول في الجيش.

من ناحية أخرى، حاول عدد من المفكرين الإسلاميين (أمثال: فهمي هويدي و طارق البشري وسليم العوا وأحمد كمال أبو المجد وراشد الغنوشي)، تطوير بعض الأفكار وتوسيع دلالات مجموعة من المصطلحات التقليدية، بشأن موضوع الأقليات غير الإسلامية في المجتمعات الإسلامية، كمصطلح (أهل الذمة). فدعا هويدي إلى تنفيد المبادئ الأساسية للقرآن والسنة في هذا المجال، مع اعترافه بأن هذه الصيغ والمفاهيم التقليدية جرى تجاوزها، من خلال التطورات الحديثة، وانتشار مفهوم المواطنة المتساوية(31).

ركز محمد سليم العوا على فكرة تعتمد على ما أسماه بالتضاد بين (شرعية الفتح) و(شرعية التحرير)، دون أن يتجاهل حقيقة تاريخية تمثلت بتعامل الجماعة السياسية التقليدية والإسلامية مع غير المسلمين كشعب مقهور، لأن الدولة احتوت غير المسلمين داخل حدودها على أساس (الفتح)، في حين أن الدولة الإسلامية الحديثة ظهرت للوجود نتيجة لصراع (التحرير)، الذي ساهم فيه غير المسلمين بصورة مساوية للمسلمين، لذا استحقوا حقوقهم كاملة كمواطنين، ولم تعد الصيغ السابقة قابلة للتطبيق (32).

أما راشد الغنوشي فإنه يرى أن المواطنة في الحياة السياسية الإسلامية تعتمد على معيارين: الانتماء الديني والإقامة. ذلك أن المسلمين غير المقيمين في الدولة الإسلامية، أو غير المسلمين المقيمين فيها لا يحق لهم أن يكونوا مواطنين بالكامل (33)، فهم (قد يصبحون مواطنين) في حال قبولهم بشرعية الدولة الإسلامية، لكنهم لا يصبحون مواطنين بالكامل، ولا يحق لهم تسلم مناصب رئيسية في الدولة(34).

ويكرر راشد الغنوشي موقف الإسلاميين التقليدي القاضي بحرمان غير المسلمين من مواطني الدولة (ذات الغالبية الإسلامية)، من تولي المناصب العليا كرئاسة الدولة أو قيادة الجيش(35).

أما في الفكر القومي العربي، فقد حظي مبدأ المواطنة بالاهتمام والتقريظ، باعتبار جميع السكان في الوطن العربي، مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن اللون والعرق والانتماء الديني أو الطائفي أو المذهبي. لكن يجب الاعتراف في الوقت ذاته بأن أعمال المفكرين القوميين الأوائل وتنظيراتهم (أمثال زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وساطع الحصري وغيرهم)، تركزت على وحدة اللغة والتاريخ والشعور والولاء السياسي والوجداني في تكوين الوجود القومي. ونتيجة لهذا فقد اتخذ الفكر القومي وجهة المماثلة بين المواطنة والرابطة القومية، التي تعني الشعور بالانتماء إلى الأمة العربية، إذ إن قيمة المواطنين تقدّر-بعد منحهم فرصاً متكافئة – حسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة العربية وازدهارها دون النظر إلى اعتبار آخر.

وقد عرّف (دستور البعث): (العربي بأنه من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه للأمة العربية) (36).

والحقيقة فإن أطروحة أولوية السلطة المركزية أو الدولة على الفرد أو المواطن، كما سوغتها بعض المقاربات القومية، ساهمت وما تزال في تراجع البعد الديمقراطي في هذا الفكر، ومن ثم تهميشه لمبدأ المواطنة وإهماله لمناقشة هذه المسألة.

وقد عزا الباحث خالد حروب (ضمور مبدأ المواطنة) في الفكر القومي العربي على مدار القرن العشرين وحتى عقد الثمانينات منه، إلى عوامل عديدة أهمها (37):

1-غلبة تنظيرات دور الدم واللغة والتاريخ في تشكيل الوعي القومي على حساب تنظيرات الحقوق والواجبات في تشكيل أي مجتمع قومي حديث.

فقد أثرت في توجيه الفكر القومي تأثيراً أساسياً، أعمال ساطع الحصري وتنظيراته، وتركيزه على وحدة الأصل والمنشأ، وعلى أن العاملَين الأساسييّن في تكوين القومية هما (اللغة والتاريخ) (38). ونتيجة لذلك فقد اتخذ هذا الفكر وجهة وجدانية ولائية وانتمائية تاريخية، بوصلتها (الهوية القومية) وليس (المغزى القانوني) للولاء والانتماء إلى الدول الناشئة، وهو المغزى الذي يرسخ مفهوم الحقوق والواجبات ويكرس مفهوم المواطنة.

فالهم الأساسي الذي استغرق الفكر القومي في مرحلة التأسيس كان بعث هوية عربية جامعة للعرب الخاضعين للحكم العثماني، مناقضة أو منافسة أو موازية (تبعاً لميل هذا المفكر أو ذاك) لسياسة (التتريك) التي مورست على نطاق واسع آنئذ من قبل الدولة العثمانية الاستعمارية.

2- ضغط أولويات التخلص من الاستعمار والتبعية للخارج، وبناء دولة ما بعد الاستقلال، بالتوازي مع مواجهة التحدي الصهيوني.

واللافت أن الفكر العربي المعاصر بدأ يهتم منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي بمسألة الأقليات في الوطن العربي، في إطار الدعوات المتعاظمة لمزيد من رص صفوف أبناء الأمة وتماسك جميع مكوناتها وعناصرها لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية. إضافة إلى أن ما حصل من أحداث دامية في لبنان والسودان، شكل في نظر المفكرين القوميين نذيراً خطيراً لما يمكن أن يصيب جسم الأمة العربية الكبير، ويجعله مهيأ للاستغلال من جانب القوى الخارجية، التي تعرف متى وكيف وأين تضرب، فهي (كثيراً ما وظفت مشاكل الأقليات في تفجير صراعات جانبية تضعف استجابة المجتمع للتحديات التي تولدها التناقضات القومية والطبقية) (39). ويعتقد بعض القوميين أن الاضطرابات العرقية والطائفية في الوطن العربي ليست مقطوعة الصلة بدوائر صهيونية وبأجهزة استعمارية هدفها إثارة الفتن والانقسامات في الجسد العربي، إلى حد لم تعد فيه المشكلة الطائفية أو العرقية في الداخل (مجرد ظاهرة ثقافية) أو ظاهرة دينية، وإنما تحولت إلى معضلة اجتماعية وقومية، وفي الخارج (ارتقى طموح التحالف الإمبريالي- الصهيوني من محاولة استغلال مشكلة الأقليات في خلخلة النسيج الاجتماعي العربي، إلى السعي إلى توظيف المشكلة في الاستراتيجية التي تستهدف الانتقال بالوطن العربي من التجزئة إلى التفتيت) (40).

هذه الظروف والمستجدات، دفعت بالقوميين إلى إيلاء موضوع الأقليات ما يستحقه من البحث والمناقشة، حفاظاً على وحدة المجتمعات في الأقطار العربية المختلفة من التصدع، وتمكيناً لها من القوة والأمن لتواجه التحديات الحقيقية القائمة.

والملاحظ أن تعريف (الأكثرية) في مجمله يركز على العنصر أو الدين أو الطائفة، وفي جميع الحالات فإنه يثير حساسية كبيرة، خاصة لدى أبناء تلك (الأقليات)، فـ (إذا عرفت الأكثرية نفسها عن طريق العنصر أثارت بذلك الحساسية إلى حد قليل أو كثير لدى الأقليات العنصرية ( القومية، الإثنية / خ.ج)، وإذا عرفت الأكثرية نفسها عن طريق الدين أثارت بذلك الحساسية إلى حد قليل أو كثير لدى الأقليات الدينية. والمهم في الأمر أن شعور أي أقلية بأقليتها وبعصبيتها الخاصة، سواء أكانت هذه العصبية عنصرية (إثنية، قومية/ خ.ج) أم دينية، يتوقف على القدر الذي تظهره الأكثرية من عصبية)(41).

وعموماً فقد واجهت الأبحاث القومية موضوع الأقليات من ثلاث زوايا: الزاوية التاريخية، والزاوية الاجتماعية، والزاوية الاستشرافية (المستقبلية). وسعت كل معالجة في إطار هذه الزوايا إلى تحقيق بعض الأهداف الكبرى للأمة العربية، ومنها: الحرية والوحدة والتجانس والاستقلال(42).

الهوامش:

(30) عبد الوهاب الأفندي، (إعادة النظر في المفهوم التقليدي للجماعة السياسية في الإسلام:مسلم أم مواطن؟)، الفصل الثاني من كتاب المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، علي خليفة الكواري(محرر)، مصدر سابق، ص60.

(31) انظر: فهمي هويدي، مواطنون لاذميون: موقع غير المسلمين في مجتمع المسلمين( القاهرة: دار الشروق، 1990).

(32) محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية (القاهرة: دار الشروق، 1989).

(33) راشد الغنوشي،الحريات العامة في الدولة الإسلامية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993)، ص 261.

(34) راشد الغنوشي، حقوق غير المسلم في المجتمع الإسلامي، سلسلة قضايا الفكر الإسلامي، ،9 ط2(فيرجينيا: المعهد العالي للفكرالإسلامي، 1993)، ص 77-88.

(35) المصدر نفسه، ص 128.

(36) انظر: دستور حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي أقره المؤتمر التأسيسي للحزب المنعقد بدمشق في نيسان ،1947 وانظر أيضاً: ناجي علوش، الحركة القومية العربية: نشوؤها- تطورها- اتجاهاتها (بيروت: دار الطليعة، 1975).

(37) خالد الحروب، (مبدأ المواطنة في الفكر القومي العربي: من (الفرد القومي) إلى (الفرد المواطن، (الفصل الثالث من كتاب المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية)علي خليفة الكواري (محرر)، مصدر سابق، ص 91-113.

(38) ساطع الحصري (أبو خلدون)، (عوامل القومية) في: قراءات في الفكر القومي، الكتاب الأول: القومية العربية: فكرتها ومقوماتها، ص 27-41.

(39) عوني فرسخ، (الأقليات في الوطن العربي: تراكمات الماضي، وتحديات الحاضر واحتمالات المستقبل)، المستقبل العربي، السنة ،11 العدد 119(كانون الثاني/يناير1989)، ص37.

(40) المصدر نفسه، ص 51

(41) كمال سليمان الصليبي، (طبيعة الأقليات الدينية في المشرق العربي)، المستقبل العربي، السنة ،5 العدد 46 (كانون الأول/ديسمبر1982)، ص 36.

(42) الدكتور الطاهر المناعي، الخطاب القومي العربي المعاصر من خلال أبحاث مركز دراسات الوحدة العربية (19901975, ص 350-351.

العدد 1105 - 01/5/2024