التقرير الاقتصادي الاجتماعي: التضخم والغلاء وتدني قيمة الليرة تقتضي راتباً 240 ألف ليرة

 قدّم الرفيق فؤاد اللحام، عضو المكتب السياسي للحزب، تقريراً موجزاً عن مستجدات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، في اجتماع اللجنة المركزية بتاريخ 7 /10/،2016 ونوقش وأُقرّ، وهذا نَصّه:

شهدت الأشهر الأربعة الفاصلة بين اجتماع اللجنة المركزية السابق وهذا الاجتماع مزيداً من التراجع في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية نتيجة الحصار والمقاطعة وتجميد الأرصدة الحكومية في المصارف الخارجية، إضافة إلى استمرار العمليات العسكرية في معظم المدن والمناطق السورية وتدهور الأوضاع الأمنية فيها وبشكل خاص في حلب، خاصة بعد فشل هدنة عيد الأضحى في وقف الأعمال العدائية والبدء بتنفيذ الاتفاق الروسي الأمريكي حول الأزمة السورية. وتشير التطورات السياسية والعسكرية في الأيام الأخيرة على الأرض واشتداد حدة الخلاف الروسي الأمريكي إلى توقع المزيد من تدهور هذه الأوضاع. وفي الوقت نفسه تزداد الدعوات إلى تدارك هذا التدهور قبل فوات الأوان ومعاودة الحوار بهدف التوصل إلى توافق محلي إقليمي دولي لدحر الجماعات الإرهابية وتمهيد الأرضية المناسبة لوضع الحل السياسي للأزمة السورية على سكة التنفيذ…

لقد أدى استمرار المعارك إلى ارتفاع أعداد الضحايا وتدمير المزيد من المنشآت الصناعية والتجارية والخدمية والسكنية ونهبها، واستمرار عمليات التهجير والنزوح وارتفاع أعداد المهجرين من هذه المناطق وما ينجم عن ذلك من ازدياد حدة الفقر والجوع والبطالة. وباتت سورية- حسب وزير الأشغال- بحاجة إلى بناء حوالي 500 ألف وحدة سكنية. كما تستمر ظاهرة الهجرة إلى الدول الأخرى وخاصة من الشباب والكفاءات، وتشير آخر التقديرات إلى هجرة حوالي ثلث الأطباء المسجلين في وزارة الصحة، منهم قرابة 1100 طبيب واختصاصي سوري في ألمانيا وحدها. كما بلغ عدد أطباء الأسنان الذين غادروا البلاد 8 آلاف طبيب من أصل أكثر من 20 ألفاً، في الوقت الذي يقدر فيه عدد قوة العمل المهاجرة بما يزيد عن المليون عامل معظمهم من الاختصاصيين والفنيين والمهنيين.

وباستثناء المنشآت الخاصة والعامة التي تم تدميرها ونهبها في منطقة الراموسة بحلب مؤخراً، بلغت قيمة الأضرار حسب آخر التقديرات المعلنة من قبل غرف الصناعة في دمشق وريفها وحمص وحماه وحلب نحو 503 مليارات ليرة سورية، كما بلغ مجموع خسائر القطاع العام الصناعي وفق القيمة الاستبدالية نحو 2600 مليار ليرة سورية وكل هذه المبالغ قابلة للزيادة في ظل استمرار الأعمال العسكرية وارتفاع قيمة القطع الأجنبي اللازم لتعويض الآلات والتجهيزات المتضررة والمنهوبة. كما بلغ إجمالي أضرار وزارة الكهرباء خلال سنوات الأزمة ما يزيد عن 800 مليار ليرة سورية. يضاف إلى ذلك تراجع الإنتاج الزراعي والحيواني الذي يجري تسويقه بنسب كبيرة، خاصة الذي يشكل مستلزمات إنتاج لعدد من الصناعات النسيجية والغذائية كالقمح والقطن والشوندر السكري الذي جرى تحويله للعام الثاني إلى علف حيواني، بسبب عدم اقتصادية تشغيل معامل السكر بالكميات المنخفضة من هذا الإنتاج. كما أن ارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي، وعدم توفر الأسمدة والمبيدات والأدوية البيطرية، وعدم تحديد سعر مشجع للمحاصيل الاستراتيجية الأساسية، كل ذلك أدّى إلى تراجع الإنتاج من هذه المنتجات بعد توقف الكثير من المزارعين عن زراعتها، في الوقت الذي تزداد فيه صعوبة تسويق الحمضيات والفواكه الأخرى والخضار نتيجة جشع الوسطاء والتجار المستغلين. ولابد هنا من الإشارة إلى الارتفاع في تكاليف النقل وممارسات بعض الحواجز السيئة التي تزيد من كلفة المنتجات الزراعية والصناعية وترفع بالتالي أسعارها.

كما تشهد البلاد في هذه الفترة ارتفاعاً غير مسبوق في الأسعار، وبشكل خاص المواد الغذائية الأساسية. وتشير بعض الدراسات المحلية والخارجية إلى أن عام 2016 كان الأسوأ للسوريين الذين أصبح 86,7% منهم تحت خط الفقر العالمي نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة الذي وصل في العام الحالي إلى نسبة 1155% قياساً إلى ما كان عليه قبل عام ،2011 وذلك بالتوازي مع انخفاض القوة الشرائية لليرة السورية التي خسرت ما يفوق الـ 90% من قيمتها. وفي هذا الصدد تشير دراسات عديدة إلى أن راتب العامل يجب أن يكون في الوقت الحالي بحدود 240 الف ليرة سورية شهرياً لكي يتمكن من العيش ضمن الظروف ذاتها التي كان يعيشها قبل اندلاع الأزمة، وهناك دراسات أخرى ترفع هذا الرقم إلى نحو 290 ألف ليرة سورية.

وعلى الرغم من الدور المحدود الذي تقوم به مؤسسات التدخل العامة في توفير عدد من السلع الضرورية، فإن أسعارها لا تقل في معظم الأحيان عن أسعار القطاع الخاص الذي تشتري منه هذه المنتجات، وخاصة في الصالات التي يستثمرها متعهدون من القطاع الخاص، إضافة إلى وقف العمل بالبطاقة التموينية و فشل دوريات التموين الدائم والمستمر في قمع الغش والمخالفات وفرض الالتزام بالأسعار المحددة. وعلى الرغم من منح العاملين والمتقاعدين مؤخراً تعويضاً معيشياً بمبلغ 7500 ليرة سورية شهرياً إلا أن هذا التعويض كغيره يقبض باليد اليمنى ليصرف أكثر منه باليد اليسرى، بسبب عجز الإجراءات الحكومية الدائم في لجم حركة الأسعار وارتفاعها بعد كل زيادة.

وإضافة إلى التدهور الكبير في أوضاع الطبقة العاملة والفلاحين، أدت الأزمة كذلك إلى انحسار كبير للطبقة الوسطى التي تتكون من الموظفين والأطباء والمهندسين والمثقفين والمعلمين والأدباء والحرفيين وصغار التجار والصناعيين، والتي تعتبر محرك النشاط الاستثماري والثقافي في المجتمع. وتشير إحدى الدراسات إلى أن هذه الطبقة كانت تشكل أكثر من 60% من المجتمع السوري قبل الأزمة عام ،2011 وأصبحت الآن تشكل نحو 9,4% فقط بسبب خسارة سورية مئات الآلاف من أبناء هذه الطبقة نتيجة هجرتهم مع أموالهم إلى تركيا ومصر وأوربا، أو بسبب خسارة بعضهم لممتلكاته ومصانعه في مناطق القتال. كما أدت الأزمة إلى نشوء طبقة جديدة من أغنياء الحرب تضم تجار المخدرات والسلاح والبشر والمحتكرين ومسؤولين استغلوا مناصبهم في هذه السنوات، وهذه الطبقة من أخطر ما يواجه سورية في السنوات القادمة.

ولم يسلم الأطفال من آثار الأزمة نتيجة فقدان الأهل أو التشرد أو النزوح أو الفقر بل فقدوا أيضاً فرص التعليم، إذ وصلت نسبة الأطفال غير الملتحقين بالتعليم الأساسي من إجمالي عدد الأطفال في هذه الفئة العمرية إلى 50,8% خلال العام الدراسي 2015 -،2016 أي أن نصف الأطفال تقريباً باتوا لا يحصلون على التعليم النظامي. كما أدت الظروف الصعبة التي تواجهها الأسر إلى زيادة عمالة الأطفال من أجل تلبية ما يمكن من حاجة هذه الأسر، وتشير التقديرات الحالية إلى أن نسبة عمالة الأطفال تضاعفت في الأزمة من 10 إلى 20 بالمئة، في الوقت الذي ازدادت فيه أعباء المرأة السورية نتيجة فقدان الزوج أو الابن واضطرارها للعمل في مجالات عديدة لتأمين الحد الأدنى من احتياجات أسرتها، إضافة إلى ما تعانيه في المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعات التكفيرية المسلحة من كبت وقمع وما تعانيه في مخيمات النزوح واللجوء وخاصة في البلدان العربية المجاورة من استغلال وغير ذلك من الممارسات السلبية بحقها.

جرى خلال الفترة الفاصلة بين اجتماعي اللجنة المركزية تشكيل حكومة جديدة قدمت بيانها الوزاري لمجلس الشعب وكان بياناً عاماً لاقى الكثير من الملاحظات. وقد قدم حزبنا من خلال ممثليه في مجلس الشعب ملاحظات عديدة على هذا البيان نشرتها جريدة (النور) في حينه. وتحاول الوزارة الجديدة مواجهة التحديات التي تعاني منها البلاد بفعل الأزمة، من خلال عقد العديد من الاجتماعات المختصة بين الوزراء والصناعيين والتجار والعمال من أجل معالجة عدد من المشاكل التي يعاني منها القطاعان العام والخاص، واتُّخذ عدد من الإجراءات في هذا المجال نُفِّذ عدد بسيط منها والباقي ما يزال قيد الانتظار.

على الجانب النقدي أُلغي دور مكاتب وشركات الصرافة في تمويل المستوردات وحُصرت هذه المهمة بالمصارف العاملة المرخصة. وقد لقي هذا الإجراء ترحيباً من القوى الوطنية ومن المختصين والمعنيين في المجال المالي والنقدي، رغم أنه جاء استجابة متأخرة لمطالبتهم بهذا الأمر بعد طول انتظار. ومع ذلك ما يزال سعر الدولار مستمراً في الارتفاع وإن بشكل أقل من السابق، فقد ارتفع من حوالي 470 ليرة سورية في حزيران الماضي إلى حوالي 540 حالياُ أي بزيادة نحو 15%. وما يزال القسم الأكبر من أسباب ارتفاع سعر صرف الدولار قائماً حتى الآن، وفي مقدمتها الحصار والمقاطعة وتراجع الإنتاج المادي وازدياد المستوردات وانخفاض الصادرات إضافة إلى السحب من الاحتياطي والتمويل بالعجز.

إن معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها سورية اليوم، سواء التي ظهرت نتيجة الأزمة أو التي كانت موجودة قبلها نتيجة سياسات الانفتاح غير المدروسة في تلك الفترة وتفاقمت بحدوثها ، لا يمكن أن تتحقق بسهولة وبزمن يسير، لأنها أولاً وقبل شيء مرهونة بدحر الجماعات التكفيرية الإرهابية المسلحة وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة من خلال توافق محلي إقليمي دولي يوفر الأرضية المناسبة للانتقال إلى نظام وطني ديمقراطي تعددي يحافظ على وحدة الوطن أرضاً وشعباً، ويحقق التنمية المتوازنة والعادلة لكافة أبنائه ومناطقه. إلا أن هذا لا يعني ويجب ألا يعني انتظار الوصول إلى هذه المرحلة، بل ينبغي العمل الدؤوب منذ الآن على تحقيق المصالحة الوطنية بين مكونات الشعب السوري، وتشجيع الحوار الهادف والمسؤول والمنفتح حول مختلف القضايا ذات العلاقة بالأزمة، والعمل الجاد على معالجة ما يمكن من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الراهنة بما يساعد على حسن تنفيذ العملية الانتقالية القادمة، بسرعة وكفاءة. ويمكن تحديد أهم الإجراءات المطلوبة في هذا المجال بما يلي:

1- التركيز على إعادة حركة الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمات المرتبطة بهذين القطاعين لدورهما الأساس في معالجة ما يمكن من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها سورية في الوقت الراهن، لأن ذلك من شأنه تحريك عجلة الإنتاج وتنشيط الأسواق والحد من الاستيراد وزيادة التصدير وتوفير فرص العمل وتشجيع الكفاءات العلمية والإنتاجية التي غادرت سورية للعودة وإعادة تأهيل وتشغيل المنشآت المتعطلة أو المتوقفة.

وانطلاقاً من ذلك فإنه لابد من تشكيل فرق عمل مختصة بكل قطاع من هذه القطاعات تضم الجهات الحكومية والخاصة المعنية وخبراء مختصين لتحديد الأولويات في كل قطاع بما يتناسب مع قدرات وإمكانيات هذين الطرفين ووضع البرامج الزمنية لتنفيذها.

2- تمويل المستوردات الضرورية بالكميات والأوقات المناسبة وبشكل عادل ومتوازن، والحد من استيراد المنتجات غير الضرورية ووقف استيراد المنتجات التي يتوفر منها إنتاج محلي كافٍ، مع فرض رسوم جمركية مناسبة على المنتجات التي تسد نقص الحاجة المحلية منها خلال هذه الفترة للحيلولة دون المنافسة غير العادلة مع المنتج الوطني.

3- تحقيق التوازن بين حجم الاحتياطي النقدي الموجود من القطع الأجنبي وسعر الصرف المناسب. وتحديد سعر عادل وقريب من سعر السوق غير النظامية لأسعار الحوالات الخارجية، و تشجيع الودائع المحلية بالقطع الأجنبي ومنح فائدة مقبولة عليها. ودراسة إمكانية إصدار سندات عامة بالليرات السورية لفترة محددة بفوائد مشجعة.

4- تفعيل دور الدولة ومؤسسات التدخل الإيجابي العامة والأهلية في توفير السلع الضرورية للمواطنين، وإعادة العمل بالبطاقة التموينية وتوسيع المواد التي تشملها بحيث تضم سلة أوسع من المواد الغذائية الضرورية.

5- تطبيق المقايضة قدر الإمكان في التبادل التجاري مع الأصدقاء ومع ما يمكن من الدول الأخرى التي لا تقاطع سورية.

6- اعتماد الشفافية والعلنية والأصول القانونية المعتمدة في التعامل بين القطاع الحكومي والعام مع القطاع الخاص فيما يتعلق بتلزيم الأنشطة أو المشاركة في تطوير الشركات القائمة وتشغيلها، وإقامة المشاريع المشتركة.

7- تنفيذ برامج تدريبية للمهجرين والعاطلين عن العمل منذ الآن لخلق فرص عمل لهم ولتوفير اليد العاملة اللازمة في مجالات إعادة الإعمار والبناء.

8- اتخاذ الإجراءات اللازمة لتشجيع المستثمرين السوريين الذين غادروا سورية على العودة إلى منشآتهم وأعمالهم في سورية.

9- تعديل الأنظمة والقوانين التي تتعارض مع أحكام الدستور المعمول به حالياً وبشكل خاص فيما يتعلق بالاستملاك والجنسية.

أخيراً، فإنه في هذه الأيام العصيبة والمخاطر الكبيرة التي تحيط بسورية والمنطقة نتيجة تفاقم الخلافات الإقليمية والدولية حول سورية، فإن على الجهات العامة المعنية وكذلك المؤسسات والجمعيات الأهلية اتخاذ كل الإجراءات وتدابير الحيطة اللازمة لتكون على أهبة الاستعداد لمواجهة أية تطورات سلبية أو إجراءات ظالمة جديدة بحق الشعب السوري وتجنيبه المزيد من الكوارث الاقتصادية والاجتماعية.

 

العدد 1105 - 01/5/2024