الموطن الأوّل…كم منزل في الأرض يألفه الفتى… وحنينه أبداً لأوّل منزل.

معانٍ وعباراتٍ كثيرةٍ تختبئ في ثنايا حروف هذا البيت الشعري، فكم ترسم هذه الكلمات في ذاكرتنا خيالاتٍ وصور لأوّل مكان ألفته أرواحنا، وطابت له نفوسنا، وكم للموطن الأول من حنين لا يخلُ قلب منه مهما كبر أو صغر، ومهما تغيّر به الزّمن.

فلك أن ترحل في كل بقاع الأرض، وأن تجول في كل البلدان والمدن والقرى، على اختلافها وجمالها وبعدها وقربها، ولك أن تسافر كلّ يوم في رحلةٍ، وتحلّ كلّ ليلة في مكان، وتقيم كلّ فترة في منطقة، لك أن تسكن أفخر المنازل، وتقتني أجمل الأثاث، ولكن يبقى في داخلك صوت حنينٍ قديمٍ، يصرخ في قلبك، ويُلهِف روحك لأوّل مكان سكنت به، لأوّل منزل عشت به.

ذلك المكان الذي فتحت عيونك لأوّل مرةٍ فيه، ونمت تباشير روحك الأولى في رحابه، وتلقّفت فيه أولى أحاسيسك ومشاعرك وأهواءك، مهما ابتعدت عنه، وطال غيابك، يبقى في نفسك شيء يتمنّى العودة له، وتبقى خطواتك تتمنّى في كل مرّة أن تتجه عائدةً إليه.

حين تعود إليه من بعد غياب طويل، تطالعك نسائمه العذبة على بعد عدّة كيلو مترات، تشعر بانفتاح قلبك، وتوسّع مجرى تنفّسك، تشعر بتغيّر تقاطيع وجهك، وبازياد الفرح في ملامحك، ودخول هواء الحنين إلى جوفك بعذوبةٍ لا توصف، وتعود إلى ذاكرتك صور الحياة الأولى، حياة الطّفولة، والمراهقة، صور المحبوبة الأولى، والابتسامة البريئة، صور الخيبة الأولى، والفراق الأوّل، وكلّما اقتربت أكثر كلما اتّقدت فيك نار الحنين أكثر، ولكأنك تمشي على قلبك، وتفترش روحك في سبيل الوصول إليه، ولكأنّ إحساسك يمشي بجانبك، تنتظرك عند أوّل الطّريق يد والدةٍ تمتد لتحتضنك بملء قلبها، وصوت أبٍ يمنحك كفّه لتمسكها وتتقدّم أكثر.

ولكأنّك تصغر كلّما اقتربت منه أكثر، سنة، سنتين، ثلاثة، خمسة، عشرة، وهكذا، ولا تشعر بنفسك إلّا وقد غدوت طفلا تعدو فوق أرضه، وتركض فيها ببراءتك الأولى، وتعود لك عذوبة الضحكات، وصدق النّظرات والكلمات.

شريط الذّكريات يمرّ بسرعةٍ أمام ناظريك، يمرّ كحلم بعيد، وتقول مسائلاً نفسك: كيف استطاع هذا المكان أن يعيدني كل تلك السّنوات، أن يعيد لي طفولتي، ومراهقتي وشبابي، كيف استطاع أن يعيد لي الإحساس الأوّل بكلّ شيء؟ وكيف عدت أنا كما كنت؟.

وتشعر في قرارة روحك أنّ كلّ تلك السّنوات والأيام التي قضيتها بعيداً عنه، كانت لاشيء، كانت كمن يبتعد عن حضن والدته مرغماً، ثّم يعود لها مفعماً بالشّوق، ملفحاً بنار الحنين لدفئها. الموطن الأوّل.. قد لانسأل أنفسنا يوماً، ما هو الموطن الأوّل لنا، قد لا نشعر بمعنى هذه الكلمة، ولكن من ابتعد عن موطنه، وعن منزله، وعن أهله، يدرك ماذا يعني الموطن الأوّل، يدرك ماذا يفعل الحنين له داخل قلبه.

أجل، إنّه أوّل موطن، الهوية الأولى، والانتماء الأول، والحنين الأوّل.

العدد 1107 - 22/5/2024