انتقام المسـتقبل (4)

 المحرك الأخير دعاه (الحافة) أي ذلك المأزق الذي وصل إليه العالم، إنه مأزق التلوث الذي أحدث ضرراً خطيراً في التوازن المناخي. وهو يعيد ذلك إلى الاستمرار في حرق الوقود الأحفوري الغني بالكربون ويشكل 85% من الطاقة التي تسير شركة الأرض ما يسبب الإضرار العالمي، الذي يحدث عن تسعين مليون طن إضافي تنفثها الحضارة على الأرض كل أربع وعشرين ساعة، وتظهر أضراره المباشرة بتلف الغلاف الجوي والنظم البيئية، وانقراض الكثير من الكائنات الحية، الحيوانية والنباتية، وتحمّض المحيطات ونضوب أنواع من الثروة السمكية وتلف الشعب المرجانية وتراكم النفايات واستنزاف الموارد الصحية والمياه الجوفية بمعدلات خطيرة.

إن صب مزيد من الطاقة -كما يقول- يضيف كل يوم حرارة في الطبقة الدنيا من الغلاف الجوي أكثر مما تطلقه 400قنبلة نووية كالتي ألقيت على هيروشيما.وهنا يبدو أنه أحسن اختيار المثال الذي يذكّر بالفعل الأمريكي وبشاعته، أي إلقاء القنبلتين على اليابان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. بالتالي يذكر بأن أكثر الدول إحداثاً للإضرار ربما كانت بلاده الولايات المتحدة، لكن آل غور، وهو الناطق باسم هذه القوة والذي يشير إلى دور بلاده في ذلك، يحاول إزاحة المسؤولية الكبرى ليحولها إلى غير بلاده، كالصين حالياً، أو يجعل الآخرين شركاء في ذلك، وهو يعلم ضعف مساهمتهم قياساً للولايات المتحدة، في مأساة التلوث.

تتبين الأضرار العالمية بسبب اعتلال المناخ أو اختلاله، في الأمطار الحمضية والفيضانات في غير أوانها أو مناطق توقعها، وفي ارتفاع درجة الحرارة إلى معدلات غير مسبوقة وحدوث حرائق وزيادة معدلات الكربون في الجو وفي التربة والمياه، وهو مسبب الاستعصاء.

غير أن اللافت في الأمر حديثه المطول عن مقاومة إصلاح مناخ الأرض أو الحد من الاحترار المناخي، بالحد من انبعاثات الغازات المسببة، وهو عندما يتحدث عن ذلك في الولايات المتحدة، يظهر مدى التصلب الذي يبديه الكونغرس واليمين الأمريكي من الحزب الجمهوري الذي يساير الشركات التي يتلقى مساهماتها في تمويل النشاطات الحزبية والانتخابية، حتى ليظهر زعماء الجمهوريين وكأنهم لا يبالون بهلاك البشرية، ودون رادع أخلاقي من أجل سلامة الكون، مقابل مصالحهم الشخصية، ومصالح الشركات الداعمة لهم، ما يشير إلى التدني المريع في المسؤولية الأخلاقية، فهم يكذّبون نتائج الاختبارات العلمية الدقيقة ويتهمون أعداءهم بأنهم يختلقون المسألة التي لا وجود لها، وبدل دعوتهم للتخفيف من حرق الوقود وإحداث الأضرار، فإنهم يرون أن الجنس البشري استطاع التكيف مع كل الأوضاع عبر وجوده على الأرض، وهو سيتكيف مع الأوضاع الجديدة ولا داعي للتخفيف.

تأليف: آل غور

إنه يعود ثانية للتأكيد عندما يكون: (مستقبل الحضارة الإنسانية في كفة الميزان،تكون كل من الديمقراطية والرأسمالية قد فشلتا فشلاً ذريعاً في خدمة المصالح المهمة للبشرية) (ص 220).

كما يتحدث عن أن (النظام السياسي المتضعضع بشكل كبير في الولايات المتحدة أنتج عقبات تشريعية على خطة أوباما الصحية) (ص 238) ومن الهام النظر إلى أوصافه للديمقراطية الأمريكية وللرأسمالية بالفشل والضعف، ولوصفه الوضع السياسي الأمريكي بالمتضعضع، وهو يقدم البراهين على العراقيل المتعددة التي يضعها الجمهوريون أو اليمين الأمريكي في وجه الكثير من الإصلاحات التشريعية المؤدية لإنقاذ البشرية من زيادة التدهور في بيئتها الأرضية وفي مناخها. وكل ما يقدمه يُظهر أن الرأسمالية الأمريكية تضحي بالإنسان، بل بالجنس البشري مقابل إخلاصها لمبدأ الربح وتكديس الثروة التي تسعى إليها الشركات ممثلة الرأسمالية ومن ينحاز لها، ويتبدى ذلك في أجلى مظاهره في انتشار التفاوت الطبقي وزيادة الفقر وانتشار الجوع، حتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية وبكثافة لافتة ومريعة لا تليق بمجتمع ينتمي إلى الحضارة الحديثة ويدّعي صنعها ورعايتها.

***

ليس ما قدمته تلخيصاً للكتاب، فهو أغنى بالأفكار والمعلومات. إنما هي قراءة في بعض أفكاره وتعليق عليها. وما يلفت قبل إبراز ما تضمنته الخاتمة الهامة، أن محركات غور على أهميتها، تتناسى ما هو أهم، لاعن جهل أو غباء، بل إنها الرؤية الامبريالية. فهو يتجاهل مثلاً وقف التدخل في شؤون الشعوب، ومساعدتها للخروج من مآزقها، ووقف التوترات المصطنعة، ومحاولات التفرد والهيمنة، كما تناسى ضرورة وقف المنازعات التي تغذيها بلاده، وإعادة الحقوق المغتصبة إلى أصحابها كما في فلسطين، ويتناسى وضع برامج للخلاص من الفقر حقيقة، ورفع مستوى معيشة الشعوب وإتاحة الفرص لأجيالها، ووقف استجرار العقول الناشطة منها بإغرائها للقدوم إلى الغرب، كما ينسى ضرورة تمكين المرأة والشعوب الفقيرة من تجاوز فقرها، والتوقف عن نهب خيراتها، وحين يذكر شيئاً من ذلك على ضآلته، فهو لتزيين الموضوع وإظهار النظرة الإنسانية، في حين كان يجب النظر إلى ذلك كمحركات أهم، فعن طريق تنمية الشعوب وليس نهبها يمكن الوصول إلى المحركات الهامة.

وعلى عتبات الخاتمة سأسأل: في ظل أية مشروعية تبادر الولايات المتحدة الأمريكية إلى غزو دول العالم بحجة نشر الديمقراطية، وتحارب الأنظمة البديلة للرأسمالية، في الوقت الذي يؤكد أحد كبار قادتها، وقادة الرأسمالية والديمقراطية فيها، في أماكن عدة في كتابه فشلهما في معقلهما، وفي المهمات الموكلة إليهما عالمياً؟ أليس الأولى إصلاحهما في المعقل الأمريكي بما أنهما قد فشلتا؟ إنه يشير إلى أسوأ الفظائع التي سجلت في التاريخ، والتي نظمها وارتكبها الأشرار المتعلمون تعليماً جيداً، ولو بحثنا عنهم لوجدنا أن العالم الرأسمالي قد أنجب العدد الأكبر منهم. وهو لكي يستبعد التلوث عن الديمقراطية والرأسمالية يشير إلى أنهما تعرضتا للقرصنة، لكنه لا يقول إن هؤلاء القراصنة لم يكونوا إلا رأسماليين وديمقراطيين، ربما من منافسيه الذين أدت قرصنتهم إلى نتائج ملموسة في: (السيطرة الخانقة للنخب على القرارات السياسية، والتفاوت في الدخل والاكتناز المتنامي للثروة…) (ص264) والأمر الهام أن هؤلاء القراصنة ليسوا من العالم الثالث، عالم الفقراء.

وعندما يتساءل إن كان من الممكن إعادة تأسيس النظام السياسي والاقتصادي من قبل الأمريكيين بحيث يعمل بشكل سليم في الولايات المتحدة، ويتمكن ثانية من القيادة الحكيمة وإنهاء القرصنة، يقول بأنه ربما يظهر شكل بديل من القيادة العالمية، إنما بشكل غير مؤكد. ويرى أنه من الناحية النظرية يمكن أن تنهض إحدى الأمم الأخرى وترقى إلى مستوى التحدي: (علماً أن ذلك غير واضح إلى حد كبير) (ص285). مع إقراره بأن موازين القوى في العالم تحولت من الغرب إلى الشرق وأعادت التوزيع مصعّبة على الولايات المتحدة الأمريكية توفير قوة وجودة القيادة كما قدمتها خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فقد العالم الثقة بالولايات المتحدة في أعقاب (الأخطاء السياسية والعسكرية والاقتصادية الكارثية التي ارتكبت في المراحل الأولى من القرن الحادي والعشرين) (ص285).

هل هذا رثاء للقوة الأمريكية المتراجعة؟ أم تحذير من أجل إعادة الدور؟ إن ذلك يبدو رثاء أكثر مما هو تحفيز، بدليل الإقرار باستمرار (القوة الاقتصادية المتاحة للصين)(ص286)وعندما يقول إن غير أمريكا قد احتل هذا الموقع أو المكانة، فإن ذلك له دلالاته، ويؤشر إلى إقرار بواقع لم يعد إنكاره ممكناً. إن النظام الرأسمالي ظهر عبر التاريخ كالقط بأرواحه السبعة، وهذا دليل حيوية وقوة، فقد عرف كيف يعيد الانتعاش ودور الهيمنة، ولكن الخطورة هذه المرة تأتي من الإقرار بتراجع: (الثقة بكل من رأسمالية السوق والديمقراطية التمثيلية) (ص288) فهما بحاجة إلى إصلاح في المرتبة الأولى من سلم الأولويات، كي يكون بمقدورهما العودة إلى موقعهما، فإذا كانت هاتان (الرأسمالية والديمقراطية) هما أسس النظام، فإن المرض في الأسس هو مؤشر خطير. لكن غور لا يخبرنا كيف سيتم إصلاحهما، ولابد من طرف ما يقوم بالمهمة، لأن المريض يصعب عليه مداواة نفسه، ولابد له من الطبيب. في هذه الحالة من هو الطبيب؟ ولو كانتا دون خلل أو كان بمقدورهما ألا تفقدا الثقة، ما وصلتا إلى هنا. إذاً هناك ما يثير الريبة مما يستنتج من كلام غور!

إنه يسأل: (فماذا نصنع الآن؟) ولطالما سأل هذا السؤال من وجد أنه في موقع يجب الانتقال منه إلى ما هو أفضل، فقد سأل لينين (ما العمل؟) وسأل السؤال ذاته قسطنطين زريق، وربما غيرهما وهؤلاء يريدون رسم الطريق إلى الغد، فما هو غد الرأسمالية بعد العولمة؟

يبدو غور ذا ثقة كبيرة بالإنترنت كأداة فاعلة في إصلاح الديمقراطية، إذا نحن سرنا وراء ممكناتها التي توفرها. وكأنه يفكر فيما أصبح الحديث عنه كآخر صيحات الديمقراطية والمجتمع، إنه (المجتمع التداولي)، الذي تحدثنا عنه في مواقع عدة، وغور لا يذكره ولا يسميه، مع أن بعض المفكرين الغربيين تحدث عنه باعتباره وريث المجتمع المدني.

لابد من الإقرار كما يرى غور بأن الرأسمالية تتطلب القبول بعدم المساواة، لكنه يرى أن ذلك يجب ألا يكون بالحدود المفرطة (مرة أخرى دون أن يقول لنا ما الحدود المفرطة، أين تبدأ أو أين تنتهي؟) ويبدو أن ذلك غير قابل للوصف أو الحديث عنه مادام المجتمع مجتمع الحدود والحظوظ المفتوحة، إنما فقط هو يرى أن عدم المساواة (تعد هدامة لكل من الرأسمالية والديمقراطية) (ص292).

ماذا نقول؟ لولا بعض الحياء أو التحفظ لوصفنا آل غور بالاشتراكي. لكن أن يكون ذلك وهو يدعو إلى قيادة أفضل للولايات المتحدة، أليس كأنه يقول إن الجمهوريين أو اليمين الأمريكي هو فاعل السقوط، ولا يرضى بالخروج من الإعاقة، فابحثوا عن بدائل. ولماذا لا يكون هو أو ديمقراطي آخر؟ إن العملية لا تحتاج إلى أكثر من (الحد من دور الرأسمال في السياسة وإصلاح القوانين التشريعية البالية والمبهمة التي تسمح لأقلية صغيرة بأن توقف العمل التشريعي في مجلس الشيوخ الأمريكي) (ص294) أرأيتم ما أسهل المهمة، مهمة إصلاح عطب الرأسمالية؟ لماذا لم يفعلها رئيس ديمقراطي مثل أوباما؟ إن ذلك أكبر من أن يثير السخرية!

في الكتاب ما يعزز الثقة بالمستقبل، إذا نظرنا إلى التقدم العلمي التكنولوجي في مجالات كالتواصل أو هندسة الجينات، وغير ذلك. لكن فيه أيضاً ما يرسم صورة قاتمة إذا نظرنا إلى النظم كالرأسمالية والديمقراطية بما آلتا إليه في نظر غور، وكما تقدمه المشهدية الأمريكية في ظل اليمين، ما يعتبر مؤشراً خطيراً للشعوب الباحثة عن الانعتاق في مناخ الديمقراطية التي ستخرجها من إعاقتها. ويوحي بأن المستقبل يبشر بالانتقام، والكارثة ستتحقق إن لم تتخلق للرأسمالية قيادة ذات كفاءة، وهو لايزال يأمل ذلك، أي أن تكون الولايات المتحدة قادرة على تجاوز الإعاقة والخروج من مآزقها ومشهدية العجز والتهالك، عكس منطق التاريخ.

مرة أخرى نقول إن في الكتاب أفكاراً كثيرة لم نذكرها، وأفكاراً كثيرة تعزز ما ذكرناه، فإذا أردنا فهم قلق أمريكا على مكانتها ودورها، وإصرارها على مواجهة ما يهدد هذا الدور (أمركة العالم) الذي يتراجع بفعل عوامل عدة، فالكتاب يقدم الكثير لفهم ذلك، في قراءته المتأنية، أو في استشراف بواعث القلق خلف السطور.

 

(*) المستقبل: ستة محركات للتغيير العالمي،

العدد 1105 - 01/5/2024