لماذا كان ماركس محقاً؟! (32)

 علينا أن ندرك أن الحقيقة أيضاً من صنع أيدينا. عدم إدراك ذلك، أي الاعتقاد بأن الحقيقة هي شيء طبيعي لا يُدرك ومستقلٌّ عن عملنا، هو ما سمّاه ماركس (الاغتراب)، بمعنى الابتعاد عن الواقع. وهو يرى أن الظروف التي تُنسينا أننا نصنع التاريخ بأنفسنا، ونتأثر به، هي قوة غريبة. يقول الفيلسوف يورغن هابرماس أن موضوعيّة العالم، وفق ماركس، يُستدل عليها من جسم الإنسان التوّاق أبداً إلى الحركة والعمل.

وبمعنى ما، يظهر الوعيُ إذاً (متأخراً)، كما يظهر العقل لدى الطفل لاحقاً. فنحن، قبل أن نعي، نوجد في عالم مادي، وتفكيرُنا، مهما بدا مجرَّداً ونظريّاً، ينطبع بهذا الواقع حتى النخاع. لكن الفلسفة المثاليّة تنسى أن أفكارنا متجذّرة في عالمنا العملي، وعندما تستثنيها من هذه العلاقة المتجذّرة، تصبح فريسة الوهم أن الفكر هو الذي يخلق الحقيقة.

يقول ماركس بوجود علاقة وثيقة بين تفكيرنا وحياة جسدنا، إذ تؤدي حواسُّنا عندئذ دور الوسيط بين الاثنين. وعلى العكس، يعتقد بعض الفلاسفة المثاليين بأن المادة شيء مختلف تماماً عن الفكر أو الأفكار.

أما ماركس فيعتقد أن جسم الإنسان هو البرهان على بطلان هذا التقسيم بين المادة والفكر، وبكلمات أدق: إن جسم الإنسان الفاعل والنشيط هو البرهان على بطلان هذا التقسيم. إذ لا شك إطلاقاً في أن الممارسة العملية هي شيء مادّي، لكنها وثيقة الصلة بالمعاني والقيم والأهداف والنوايا. وإذا كانت الممارسة (الفاعل)، فهي أيضاً (الموضوع). وهي، ربما، ترفض هذا التقسيم. وصف بعض المفكّرين القدامى العقل بأنه إيجابي والحواسَّ بأنها سلبية. أما بالنسبة لماركس، فتشكّل أحاسيس الإنسان بحدِّ ذاتها عراكاً مع الحقيقة، وهي نتيجة علاقة متبادلة طويلة مع العالم المادّي.

وفي هذا الصدد يكتب ماركس في (المخطوطات الفلسفية-الاقتصادية): (إن تكوين الحواس الخمس هو نتيجة عمل كل تاريخ العالم الراهن).

يبدأ بعض الفلاسفة مثل لوك Locke، وهيوم  Hume بالحواس. أما ماركس، فيطرح السؤال: من أين أتت هذه الحواس؟ ويتوصّل إلى الجواب التالي: إن احتياجاتنا الحيوية هي أساس التاريخ. نحن لنا تاريخ، لأننا نعاني من الحاجة، وبهذا المعنى يكون التاريخ بالنسبة لنا شيئاً طبيعياً. الطبيعة والتاريخ هما، وفق ماركس، وجهان لعملة واحدة، وبالقدر الذي تصبح فيه احتياجاتنا جزءاً من التاريخ، تتغيَّر هذه الاحتياجات.

وعن طريق إرضاء بعض الاحتياجات، ربّما نخلق احتياجات جديدة. وفي سياق هذه العماية تتشكّل أحاسيسنا وتتهذَّب. وكل ذلك ذو علاقة بأن إشباع احتياجاتنا مرتبط برغباتنا وشهواتنا. لكن تفسير ذلك بقي من اختصاص فرويد لاحقاً.

هكذا نبدأ سرد حكاية التاريخ، والأفضل هو أن نكون نحن التاريخ. لا تشعر الحيوانات بأية رغبة، فالأعمال المركّبة وأشكال التواصل عندها تبقى عادة مقتصرة على التكرار وتحدِّدُ حياتها الدورات. وليس لها تاريخ ذاتي، وهذا هو معنى الحرية عند ماركس. وهنا نصادف سخرية مرّة: فعلى الرغم من أن تقرير المصير هو ما يجعل من الإنسان إنساناً، لم تكن غالبية الرجال والنساء في العالم قادرة على ممارسة حرّيتها. وبقيت الحياة الإنسانية محرَّمة عليهم، وتحكّمت بحياتهم الكئيبة عاداتُ المجتمع الطبقي لحدٍّ كبير. لماذا كان الأمر كذلك؟ وكيف يمكن تغييره؟ إنما هو الموضوع الرئيسي في جميع مؤلفات كارل ماركس. والسؤال الهام هو عن كيفية الخروج من ملكوت العوز والدخول في ملكوت الحريّة، أي عما يجب أن نفعله كي لا نعيش كالخُلد بل كبشر.

وبعد أن قادنا ماركس إلى عتبة الحرية، ترك لنا حرّية التصرف. إذ كيف يمكن أن تكون الحرّية غير ذلك؟

إذا أردنا تفادي ثنائيّة الفلاسفة، فما علينا سوى النظر إلى تصرفات الناس الفعلية. فجسمُنا، من وجهة نظر معيَّنة، مادة موضوعيّة يفعل بها الطبيعة والتاريخ. ومع ذلك، هو مادة من نوعٍ خاص، مختلفة عن رأس الملفوف وسطل الفحم، وقادرة على تغيير حالها، وتغيير الطبيعة حتى تصبح امتداداً له. وهذا مستحيل بالنسبة للفحم. عمل الإنسان يغيّر شكل الطبيعة إلى ما نسمّيه حضارة ومدنيّة. وجميع المؤسسات التي خلقها الإنسان، من معارض الفنون إلى مقاهي تدخين الأفيون وكازينوهات القمار وصولاً إلى منظمة الصحة العالمية، هي امتداد للجسم المنتج.

إنها تجسيد لوعي الإنسان. يقول ماركس عن الصناعة، إذ يستخدم كلمة (صناعة) بأوسع معانيها، إنها (الكتاب المفتوح لجوهر قدرات الإنسان وسيكولوجيا الإنسان الحسّية. يستطيع الجسم تحقيق كلِّ ذلك لأنه مخطوطات فلسفية اقتصادية من العام ،1844 م.م.إ، وهو قادر على تجاوز ذاته وتغيير أوضاعه في سياق عملية التطور المفتوحة النتائج التي نسمّيها تاريخ. أما الأجساد غير القادرة على ذلك فهي الجثث الهامدة.

لا تستطيع رؤوس الملفوف أن تحقق ذلك، وليس عليها أن تحققه. إنها تشكيل طبيعي بالتمام والكمال،

ليس لها الاحتياجات من النوع الذي نجده عند الإنسان. هذا الإنسان، الكائن الخاص المنتج، هو الذي يصنع التاريخ، واجب عليه صنعه، لأنه مضطر حتى في ظروف العوز الشديد لإنتاج حياته وإعادة إنتاجها. وهذا ما يقتضي أن يكون في نشاط دائب. إنه يصنع من الحاجة التاريخ. نحن نصنع حتى في ظروف الوفرة المادية التاريخ، لكن معنى الكلمة يصبح شيئاً آخر. فنحن نستطيع إرضاء احتياجاتنا الطبيعية عندئذ في المجتمع فقط، وذلك عن طريق إنتاج وسائل إنتاجنا على نطاق جماعي. وهذا ما يخلق احتياجاتٍ أخرى، هي بدورها احتياجاتٍ أخرى. وهكذا يكون جسمُ الإنسان ذو الاحتياجات وشروطُه المادّية أصل لكلِّ ما نطلق عليه اسم حضارة أو مدنية أو تاريخ. وبكلمات أخرى، يشكّل الاقتصادُ أساس حياتنا الاجتماعية. وهو حلقة الربط بين حياتنا (البيولوجيا) والمجتمع الذي نعيش فيه.

وبهذه الطريقة نصل إلى قصّة حياتنا، وأيضاً إلى ما نطلق عليه اسم الروح. فالقضايا الفكرية الروحية لا – تواجد دون جسد، وهي ليست غريبة عن العالم المادّي. لكن البرجوازيّة الغنية هي التي تميل إلى جعلها تعيش في عالمٍ منفصل عن الحياة اليومية لأنها بحاجة إلى مكانٍ تهرب إليه بعيداً عن مادّية البرجوازية الشنيعة. ومن هذه الزاوية، ليس عجيب أن تُعجب بنات المادّة كما دونّا بكتاب القبّالة. أما بالنسبة لماركس، فالروحُ هي قضيةُ فنّ وصداقة ومزاح وشعور بالآخرين وضحك وجنس وانتفاضة وإبداع ومتعة حسّية وغضب عادل ومتعة غير محدودة بالحياة. (في إحدى المرات بالغ ماركس كثيراً في قضية المزاح، على سبيل المثال،

عندما ذهب مع صديقين لزيارة جميع الحانات في شارع أكسفورد وحتى طريق هامستيد  Hampstead). )إلى أن لا حقتهم الشرطة عندما بدؤوا بقذف الحجارة على مصابيح إنارة الشوارع. ومن الواضح أن نظريته عن تعسّف الدولة لم تكن مجرد تأملات نظرية).

 حلَّل ماركس السياسة في الثامن عشر من شهر برومير) Brumaire (من وجهة نظر المصلحة الاجتماعية)كيف يمكن أن يكون غير ذلك؟)، لكنه وصف أيضاً بأسلوبٍ بديع ما تعبّر عنه السياسة: (ذكريا ت قديمة، عداوا ت شخصية، مخاوف وآمال، أحكام مسبقة وأوهام، دنوٌّ ونفور، قناعات واعتقاد ومبادئ). كلُّ هذا من ذاك المفكّر الجاف العقيم الذي يدور في مخيّلة معادي ماركس.

تأليف: تيري إيغلتون

العدد 1107 - 22/5/2024