أكبر من الرثاء

 تابعت بشغف في مدينتي (الحسكة)، ما كان ينشره ميشيل منيَر في صحيفتَي (البعث) و(تشرين) ومجلة (إلى الأمام) من مقالات وتحليلات دقيقة وجريئة عن أحداث بولونيا وهيمنة حركة (التضامن) بزعامة (ليخ فاليسا)، الذي أصبح رئيساً لبولندا بين عامي 1990- 1995.

ولفتتني المعرفة العميقة والدقيقة التي يتمتع بها هذا الكاتب عمّا يجري في بولندا وفي الاتحاد السوفييتي، فقد كان يقدم رؤية ماركسية دقيقة ومبدئية لما كان يحصل في المعسكر الاشتراكي بعد عملية (البيريسترويكا) التي بدأت في عام 1985 في الاتحاد السوفييتي، وتنبؤاته المبكرة بانهيار هذه المنظومة بتأثير عوامل عديدة، منها الدور الصهيوني التخريبي الواضح والعلني في بلدان ذلك المعسكر. وأذكر أنه كتب سلسلة من المقالات في مجلة (إلى الأمام) الصادرة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة، في تلك الفترة، يحلل فيها تفاصيل المشهد السياسي والثقافي في الاتحاد السوفييتي، ولا سيما في مدينة (لينينغراد- سانت بطرسبورغ)، التي سبق لي العيش والدراسة فيها لعدة سنوات، وكنت أقارن بين كتاباته ومعرفتي المباشرة ومتابعتي الشخصية لما يحصل هناك، فأجد أن هذا الكاتب هو خبير بالفعل، ويجب أن يستفاد من آرائه وتقييماته تلك. وقد أصبحت من المعجبين جداً بما يكتب ويحلل ويترجم، إلى أن التقيته مصادفة في عام 1990 في (دار الحصاد) بدمشق، عندما جلبت إلى هناك ترجمتي لكتاب الباحثة الروسية (نينا بيغولفسكيا) (ثقافة السريان في القرون الوسطى). وكان ميشيل آنذاك يتابع عملية طباعة ونشر رواية (يان بيانا: زمن العادلين)، التي ترجمها عن البولونية. أما الاسم الحقيقي لمؤلفها فهو (ريشارد غونتاج) الذي كان من أشد أعداء الصهيونية وحركة (تضامن) للنقابات العمالية البولندية غير الحكومية، وسياسة المهادنة الرسمية البولونية للكيان الصهيوني، رغم جرائمه العنصرية الفظيعة بحق الشعب العربي الفلسطيني. وكان ميشيل منيّر على صلة وثيقة بـ(غونتاج) مؤسس جريدة (الواقع) و(نادي وارسو 80) الخاص بالمثقفين البولونيين المعادين للصهيونية، فدفع صديقنا الراحل ثمن مواقفه تلك، إذ فُصل من الجامعة، ورُحّل من بولونيا، بحجج واهية لا تنطلي على أحد.

وكان هذا اللقاء السريع فيما بيننا بدمشق بداية صداقة ترسخت جذورها بقوة وعمق، من خلال الفكر ومنهج التحليل المشترك، وتقاطع كثير من الآراء والأفكار، حتى دون أن نجتمع ونلتقي وجهاً لوجه.

وتابعت ما ينشره من مؤلفات وأعمال مترجمة أو مقالات ودراسات. فبعد رواية (زمن العادلين) (دار الحصاد بدمشق 1990)، أصدر من الدار نفسها في عام 1994 ترجمة لكتاب فشيفولود فولتشيف وميخال فاشيليفسكي (المعسكر الاشتراكي، الأزمات والسقوط: نظرة ماركسية من الداخل) عن (الثورة المضادة) في بولندا، والسبل التي انتهجتها لإسقاط النظام الاشتراكي هناك.

ثم أصدرت له (القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي) عدداً من الكتب التي ترجمها إلى العربية، منها: كتاب (لودو مارتنس) (أوروبا الشرقية: الثورة المضادة المخملية- ،1995 وكتاب (سام مارسي) (البيريسترويكا)-  1998.

وبعد انتقالي للإقامة النهائية في دمشق في عام ،1997 حيث عملت باحثاً متفرغاً في (مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية بجامعة دمشق)، صرت ألتقي معه بصورة مستمرة، نتبادل الأفكار والتحليلات والآراء، ولا سيما ما يخص الاتحاد السوفييتي السابق وما آلت إليه الأوضاع فيه بعد وصول جماعة (غورباتشوف- يلتسن) إلى السلطة، والنتائج الكارثية المدمرة لما سمي (الإصلاحات الليبرالية) في جمهورية روسيا الاتحادية. وكانت أفكارنا وتحليلاتنا متطابقة إلى حد كبير، الأمر الذي وطّد علاقة الصداقة بيننا، وازداد إعجابي بفكره ومنهجه المتين، من خلال تتبعي لما أصدرته له (القيادة القومية) من كراسات وترجمات، مثل: (سياسة الولايات المتحدة الأمريكية إزاء روسيا)-،1997 وكرّاس (آفاق التطورات السياسية والاقتصادية في روسيا كما يراها الغرب)-،1999 و(الفقراء في عالم غني)-2000. كما أصدرت له (دار البعث) مجموعة من الدراسات المهمة من خلال ملحق صحيفة (البعث)، مثل: هل الحرب في أفغانستان مخططة قبل 11 أيلول؟)- أيلول ،2002 وترجمة لدراسة (فريدريك ف.كليرمونت) (الولايات المتحدة الأمريكية امبراطورية تنهار)- أيلول ،2003 وترجمة لدراسة (هريال برار) (الإمبريالية والتضليل الإعلامي والمقاومة).

بعد تكليفي برئاسة تحرير صحيفة (تشرين) في أواخر شهر تموز عام 2000 وضعت بالتعاون مع زملائي محرّري الصحيفة قائمة بعدد من أسماء الكتّاب والباحثين والمترجمين ليشكلوا تعزيزاً نوعياً لما ينشر في الصحيفة في هذا المجال، وكان (ميشيل منيّر) في مقدمتهم، وقد بقي يكتب وينشر في (تشرين) إلى ما قبل وفاته بنحو ستة أشهر، عندما لم يعد قادراً على الجلوس والتحكم بحركة يده وأصابعه والقلم (وقد يكون ذلك سبباً مهماً في موته). وإضافة إلى أعماله المشار إليها ودراساته ومقالاته التي بلغت الآلاف، ما بين صحف (البعث) و(تشرين) و(النور) ومجلة (إلى الأمام) والملاحق الفكرية التي كان يصدرها وحده أو بالتعاون مع بعض زملائه وأصدقائه، فقد أصدر في عام 2001 من (دار جفرا) بدمشق كتاباً يؤرخ للعلاقات الإشكالية المعقدة بين المسيحية واليهودية، وعنوانه (كنيس في الكنيسة)، وترجم كتاباً للمؤلف (هينيكيه كاردلهل)، عنوانه (هتلر مؤسس إسرائيل: العلاقات السرية بين هتلر والحركة الصهيونية وتأسيس الكيان الصهيوني) وصدر عن (دار الحمراء) في بيروت سنة ،2008 يفضح بالوثائق الدقيقة العلاقة بين الزعيم النازي (هتلر) والمنظمات الصهيونية، والدعم الذي تلقاه (هتلر)من الصهاينة في أمريكا وغيرها للقضاء على اليهود المعادين للصهيونية، والمساعدة في تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين.

من خلال معرفتي القريبة بالراحل ميشيل والتي امتدت إلى عقدين من الزمن، أستطيع التأكيد أنه كان في قمة المبدئية، والطهرانية، والشرف، والأمانة الفكرية والعلمية، والالتزام بالقيم الطبقيّة، والمثل الإنسانيّة العظيمة.

عندما وقع في مرضه الأخير (قبل حوالي ستة أشهر)، وكنت أزوره للاطمئنان عليه وتشجيعه، بقي الوطن هاجسه الأول والأكبر: يسألني عن تفاصيل الحرب العالمية التي تشن على بلدنا، وعن نتائج العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش العربي السوري في مواجهة الإرهاب وقوى الظلام والخراب.

لقد تابع بمنهجية بحثية عالية على مدى عقود عديدة (من الثمانينيات إلى أواخر أيامه) الصحف والمجلات الصادرة في أوربا وأمريكا (وكانت تصله باستمرار عبر البريد العادي بنسختها الورقية)، وترجم منها مئات المقالات والدراسات، وتعرف بنخبة من المفكرين والكتاب والباحثين المؤيدين بقوة للقضايا العربية، من: روسيا وبولندا وبلجيكا وبريطانيا وفنزويلا وكوبا والولايات المتحدة الأمريكية، والتقى بقسم منهم في دمشق بمناسبات عديدة، وتواصل معهم عبر مقابلات صحفية وترجمة مقالاتهم وبياناتهم ومواقفهم الإيجابية تجاه سورية وفلسطين والمقاومة.

هذه المقالة ليست جرداً لأعماله الفكرية- البحثية الواسعة، وإنما هي عيّنة فقط من إنتاجه الضخم الغني، الذي يفيض عن إطار مقالة موجزة محدودة الأسطر والمساحة، فميشيل منيّر كان بحق أشبه بمؤسسة في فرد: ذروة في النشاط والدينامية والدقة والمنهجية، والذاكرة الحديدية، ولو أن جهة ما تبادر إلى جمع ما كتبه ونشره وترجمه على مدى نحو أربعة عقود من الزمن، وتبويبه وتصنيفه، فسنحصل على إرث فكري يساري وطني غير مسبوق في تنوعه وشموليته ودقته وواقعيته، والأهم من ذلك كله أنه صدر عن إنسان عظيم الولاء لوطنه وقيمه ومبادئه التي آمن والتزم بها التزاماً مطلقاً دون أي تردد أو مساومة أو تخاذل، بصرف النظر عن الثمن الباهظ، والخاتمة الصحية والمعيشية والمادية القاسية فوق طاقة الاحتمال.

ويكفيه شرفاً أنه كان تجسيداً حياً للمبادئ والقضايا الأساسية للوطن والطبقات الكادحة، ومقارعة الإمبريالية والعولمة والصهيونية، والفكر الرجعي المتعفن، وكل أشكال القباحة والنفاق، والانتهازية والابتذال.

العدد 1105 - 01/5/2024