النازية عدوة الحضارة والفكر..

 في صيف سنة 1937 قمت برحلة إلى بعض البلدان الأوربية ومررت بألمانيا أيضاً. وكنت أريد أن أقارن بين حالة تلك البلاد كما كنت أعرفها أيام دراستي في جامعة برلين قبل الحكم النازي، ثم بين حالتها بعد استيلاء هتلر على زمام الأمور فيها منذ سنة 1933. كان من الطبيعي أن أزور في اليوم التالي من وصولي الأشخاص الذين سبقت لي معرفتهم، فذهبت أولاً إلى منزل (بانسيون) كنت سكنت فيه عدة سنوات، وأخذت أثناء الحديث مع صاحبته وهي امرأة عجوز، أسألها عن حالة المعيشة.

 وبينما كانت هذه العجوز تشرح لي بصراحتها المعتادة ما كان عليه جمهور الشعب من الضيق والبؤس، وتُبيّنُ لي استئثار أعضاء حزب النازي بوسائل الرفاه والنعيم، إذ بابنتها تدخل علينا إلى الغرفة. فانقطعت العجوز فجأة عن موضوع كلامها، وانتقلنا إلى أحاديث أخرى إلى أن خرجت البنت، فعادت العجوز إلى موضوعها الأول. وقد عجبت لهذا التحفظ وسألت العجوز: لماذا لم تستمر في كلامها أمام ابنتها؟ فقالت: إننا نعيش بألمانيا في جو مخيف، فقد أصبح الفرد لا يأمن على نفسه حتى من أولاده.إن النازيين قد بثوا الجواسيس في كل مكان، وإذا كان من المستبعد أن تفكر بنتي في الوشاية بي من نفسها، فإنه من المحتمل أن تعيد ما سمعته أمام الجيران. إن أقل تذمر من الحالة الحاضرة أو أبسط انتقاد للوضع السائد مما يعاقب عليه النازيون أشد العقاب.

هذا الحادث البسيط قد جعلني منذ اليوم الثاني من وصولي إلى برلين أدرك مباشرة وطأة الحكم الإرهابي النازي وفظاعته.

ثم بعد، سألت عن الأساتذة الذين درست عليهم في الجامعة لأقوم بواجب الزيارة لهم، فإذا بأكثرهم إما قد طرد من ألمانيا أو أحيل على التقاعد. وإذا بالنازيين قد استبدلوا معظم الأساتذة القديمين الذين كانوا يتمتعون بشهرة عالمية في العلم والفلسفة، والذين لم يرضوا بأن يصيروا أبواقاً لمبادئ هتلر، إذا بالنازيين قد استبدلوا بهؤلاء مخلوقات جديدة ليس لها أية قيمة ثقافية، أناساً لا يستحون من أن يكونوا عبيداً لهتلر وأعوانه، يشوهون الحقائق العلمية ويأتون بأسخف الحجج والمغالطات لإثبات تفوق العرق الألماني على بقية الشعوب.

من المعروف أن آلافاً من كبار العلماء والأدباء قد اضطروا، بعد استيلاء النازيين على الحكم، إلى الهجرة من ألمانيا، وليس هؤلاء جميعاً من أصل يهودي، كما يمكن أن يتبادر إلى أذهان الكثيرين، بل إن عدداً كبيراً منهم جرمانيون صميمون، مثل الكاتب الشهير (توماس مان) حامل جائزة (نوبل) وأخيه (هانريخ مان) وغيرهما.

إن النازيين لم يغلقوا الجامعات بل اقتصروا على إنقاص عدد الطلاب فيها، فهم لا يسمحون بالدراسة العالية إلا للشبان الذين تشبعوا بمبادئهم والذين يثقون بإخلاصهم وإطاعتهم لأوامر الزعماء. وقد صرح هتلر وغوبلز وغورنغ مراراً بأنهم لا يريدون مثقفين يفكرون ويناقشون، بل جنوداً مطيعين ينفذون كل ما يؤمرون به. على أن النازيين إذا لم يستغنوا عن الجامعات فقد قلبوها من معاهد علمية إلى مصانع تخرج لهم دعاة ينشرون مبادئهم ومهندسين يصنعون لهم الطيارات والدبابات والمدافع. وهم لا يريدون أن يكون أساتذة هذه الجامعات علماء يبحثون عن الحقيقة ويبشرون بها ويخدمون الحضارة البشرية، بل إنما آلات يحركونها كما يرغبون ويستخدمونها لتحقيق مطامعهم.

وقد صادف مروري بمدينة (ميونيخ) عاصمة ألمانيا الجنوبية أيام افتتاح معرض الفنون الجميلة، وكان النازيون قد شيدوا بناءً ضخماً لعرض آثار الفن، كما يفهمونه هم دون غيرهم. على أنهم لم يشاؤوا إلا أن يقيموا الحجة على أنفسهم بأنفسهم، فافتتحوا في الوقت نفسه معرضاً آخر في قصر قديم أطلقوا عليه اسم (معرض الفن المتفسخ) يحتوي على آثار الفنانين الذين ينكرون عليهم تمثيل روح العرق الجرماني. فإن الزوار أخذوا يتدفقون إلى معرض الفن المتفسخ حتى يتمتعوا لآخر مرة بالنفائس المجموعة فيه قبل أن تحطمها أيدي النازيين. بينما لم يدخل إلا القلائل إلى معرض الفن النازي الذي جمع نماذج سخيفة من الصور التي تمثل (هتلر) في أوضاع مختلفة يقلد فيها مرة نابليون وأخرى قيصر.

ولم تقف آفة النازية عند خنق الفكر وقتل العلم وإفساد الفن في عهد سيطرتها، بل إنها قد مدت مخالبها إلى الميراث الثقافي القديم أيضاً، وأخذت تعمل إما على طمسه أو تشويهه. فقد قذف النازيون بكثير من الكتب القديمة المشهورة، التي لا تروق لهم خارج المكتبات وأحرقوا قسماً كبيراً منها ومنعوا الناس من اقتنائها، وفرضوا العقوبات الشديدة على كل من يخالف ذلك. على أن هناك كتباً لا يمكن الاستغناء عنها فرأوا أنه لابد لهم من إعادة طبعها ونشرها، ولكن بعد تنقيحها وجعلها متفقة مع أغراضهم، وليس من الممكن أن أسرد هنا أمثلة كثيرة عما يفهمونه من (تنقيح) الكتب القديمة وإنما أكتفي بذكر مثالين:

– الأول: كتاب الإلياذة لهوميروس، لاشك في أنكم ستتساءلون مستغربين: ما هي علاقة الإلياذة بالنازية؟ ولكن مهلاً، إن ما يهم النازيين من الأدب يختلف كل الاختلاف عن النواحي التي تشوق البشر عادة. لا يحفل النازيون بالعبقرية الشعرية والإبداع الفني، إنما يهمهم أن يُرجعوا أصل كل شاعر عظيم إلى العرق الجرماني، وأن يبحثوا فيما إذا هو يصلح ليكون عضواً في الحزب النازي.

إن جميع طلاب المدارس في ألمانيا يعرفون أن هوميروس من أعظم شعراء العالم وهم يقرؤون أشعاره ويتذوقون جمالها ويعجبون بروعتها، ثم إن هؤلاء الطلاب يلقنهم النازيون بأن الحضارة الحقيقية والعلم الصحيح والفن السامي كلها وقف على العرق الجرماني، أي الشعوب الشمالية. أليس من الممكن الآن أن يلاحظ هؤلاء الطلاب أن هوميروس قد نشأ بين اليونانيين الذين عاشوا في حوض البحر الأبيض المتوسط، أي في جنوبي أوربا لا في شمالها.

خوفاً من الوقوع في مثل هذا الالتباس أصدر أحد الكتّاب النازيين ترجمة جديدة منقحة للإلياذة مع مقدمة يبين فيها أنه قد اكتشف قرابة بين هوميروس وبين الجرمان القدماء في مفهوم (القدر). وهكذا فإن النازيين لا يجدون صعوبة في أن يبدلوا الجنوب شمالاً ويقــــــلبوا هومـــــيروس من شاعر يوناني إلى مقاتل جرماني أشقر.

أما المثال الثاني فهو كتاب صدر قبل سبعين سنة، جمع فيه مؤلفه بوشمان نخبة من الكلمات المأثورة والأمثال السائرة، وذكر منشأ كل منها.. وبين كيف أن هذا الميراث الفكري مقتبس عن مختلف الأمم، وكيف أعيد طبع هذا الكتاب المنتشر كثيراً بين أيدي الناس في ألمانيا على عهد النازيين، فكان لابد من (تنقيحه) من جميع العناصر غير الآرية.

وهكذا فإن الطبعة الجديدة لا تحتوي على عدد كبير من الكلمات المأثورة، مثل قول التوراة (إن الإنسان لا يعيش من الخبز وحده) وقوله: (لا تعبدوا آلهة أخرى دون الله) أو قول الزبور (إن الصادقين يجب أن يصبروا كثيراً) وغيرها من الأقوال التي يرى فيها النازيون، حسبما يظهر، خطراً على سيطرتهم..

ومن الطبيعي أن يوجه النازيون أكبر اهتمامهم إلى الكتب التاريخية التي يمكن أن يطّلع الناس فيها على نشأة الحضارة البشرية بين الأمم الشرقية وعلى تفرع الأجناس البشرية ونماذج العروق والثقافات المتنوعة واختلاطها، والتي يمكن أن يعرفوا منا تبدل أنظمة الحكم وقيام الثورات وانتقال السطوة من جهة إلى أخرى، فيدركوا وحدة الجنس البشري وضرورة التضامن بين الشعوب وغير ذلك من الدروس والعبر التي لا تروق النازيين.

العدد 1105 - 01/5/2024