ضعف العرب في قوتهم

 إذا استثنينا من قوانا مخزون النفط الذي ينام عليه العرب، فإن الوطن العربي يتمدد على قارتي آسيا وإفريقيا بمساحته الكبيرة، وهي من العوامل التي تزيد في ثقله السياسي والاقتصادي والعسكري، لأنها تمثل أول المقومات وأهمها التي تتيح لنا فرصة ميلاد دولة عظمى، وهي عنصر قوة العرب، ومع ذلك فهي حدود مستباحة، فضلاً عن امتلاكهم أخطر الممرات المائية من قناة السويس إلى باب المندب مروراً بجبل طارق.

إن الشعارات التي ترقص في حناجر العرب كل يوم والخطابات الملتهبة والشجب عن بُعد لا توازي رصاصة واحدة تصوب نحو جندي من الاحتلال الصهيوني.وهكذا كان ولايزال موقف الأنظمة العربية الرسمية من التجبر الصهيوني، هو رد خال من الفعل ومشحون بالتوسل والرجاء للعدو والمجتمع الدولي، لإنصافهم من القهر والظلم الواقعين عليهم.

فالوطن العربي، من جانب، يحتل أكثر مواقع الألم حساسية وتحكماً لدرجة أن اعتبره علماء الاستراتيجية على مر العصور قلب العالم.. ومن جانب آخر يتأسس المخطط الاستراتيجي للتحالف الأمريكي – الصهيوني من المنظور نفسه وبالرؤية نفسها في تعامله مع الكتل السكانية المنتشرة على امتداد الوطن العربي، إذ يعتبرها كتلة بشرية واحدة ومتجانسة ومجتمعاً له خصائص مشتركة صهرته على مر التاريخ عوامل الثقافة والقيم الروحية واللغة والعادات والتقاليد في سبيكة واحدة، وجعلته ذا انتماء قومي واحد رغم تفرقه وتشرذمه على أقطار عدة.

وقد تكاتفت عناصر التماسك والاندماج جغرافياً وإنسانياً مما يجعل من هذا الإقليم، أو بمعنى أصح الوطن العربي، بموقعه وسكانه قادراً على التأثير بفاعلية في تيارات السياسات الدولية والصراعات بين القوى العالمية المختلفة ومجرياتها، ولقد اضطلع بهذا الدور في عصور يقظته وازدهاره، خاصة إبان الخلافة الإسلامية، الأموية والعباسية.

ورغم أن الأهداف الاستراتيجية لقوى العدوان السابقة واللاحقة واحدة، إلا أن كلاً منها اتبع تكتيكات مغايرة ومختلفة.. فقد لجأ النظام الاستعماري القديم إلى قاعدة (فرق تسد) لبسط نفوذه، ومن منطلق ضرورة اختراقه وتمزيقه والاحتفاظ به في حالة سيولة حتى يمكن السيطرة عليه وإخضاعه لإرادته وفقاً لمقتضيات مصالحه، يقوم حالياً الحلف الأمريكي – الصهيوني باقتحام الوطن العربي، بالمواجهة الكلية والمتزامنة بشن حرب شاملة على امتداد الوطن العربي كله باعتباره جبهة واحدة لفرض مشروعه (الشرق الأوسط الأكبر) الذي يهدف إلى تفكيك كل أوضاع الوطن العربي وإعادة تركيبها على النحو الذي حددته استراتيجية الحلف العدواني.

هذه الاستراتيجية التي أشعلت حرب الإبادة في فلسطين والعراق، والتي لم يعد خافياً على أحد أنها على وشك الانقضاض على سورية ولبنان وليبيا، تفرض على الأمة العربية حكاماً ومحكومين، التصدي لها وهي متسلحة باستراتيجية مقاومة شاملة حتى تستطيع أن توقف زحف إعصار الدمار الهولاكي وتصد خطره الداعم.

هذه الحقيقة الماثلة حتى الآن تفرض علينا تحديد الأسباب التي أدت ولاتزال تؤدي إلى تعثر الجهود الساعية إلى وضع استراتيجية عربية للمقاومة الشاملة، والتي لا مناص من ابتداعها والتسلح بها للتصدي لمعركة الحسم التي تخوضها الأمة العربية إنقاذاً لتاريخها ولمصيرها من الضياع، ومع إدراكنا العميق لأسباب هذا التعثر، إضافة إلى العوامل الداخلية والخارجية هناك الشرخ الدامي الذي أصاب العلاقات العربية نتيجة توقيع النظام المصري عام 1979 اتفاقية كامب ديفيد للسلاح مع العدو الصهيوني.

1- أزمة الإدراك العربي لطبيعة الصراع الصهيوني – وأبعاده، فقد تعاملت معظم القيادات العربية الرسمية والشعبية مع هذا الصراع باعتباره صراعاً عنصرياً ليس إلا، دون أن تستوعب أنه جزء لا يتجزأ من الصراع الأعم والأشمل المحتدم في المنطقة العربية بأسرها، وهو الصراع العربي الإمبريالي.

2- الانقسام الرئيسي في الساحة العربية بصفة عامة وشاملة، والذي يفرق بين جبهتين، جبهة الحكام والأنظمة الرسمية التي تختار إدارة الصراع بأسلوب المهادنة والانصياع للضغوط الأمريكية والتراجع والتنازل في مواجهة التهديدات الصهيونية من جهة، ومن جهة ثانية جبهة القوى الشعبية والأهلية التي تتبنى عقيدة المقاومة بكل صورها لمنع قوى العدوان وحرمانها من تحقيق هدفها، هو انقسام يحول دون تحقيق أهم متطلبات الاستراتيجية الشاملة وهو تماسك الجبهة الداخلية وصلاتها في مواجهة الأخطار الداهمة التي تهدد قضايانا الوطنية والقومية.

3- التطور السائد في علاقات القيادات والأنظمة والرسمية وتبادل الشكوك وانعدام الثقة فيما بينها، الأمر الذي يتعارض  تماماً مع التوافق والتفاهم الواجب توفرهما.

4- انعدام الروابط والصلات التي تجمع القوى الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني العربية التي تتبنى عقيدة المقاومة وافتقارها إلى العلاقات التي تُرسي الأرضية التي يمكن من خلالها بناء استراتيجية المقاومة الشاملة، ولعنة كامب ديفيد لم تقتصر على أنها أحدثت تصدعاً استراتيجياً في الموقف العربي  بل على أنها لاتزال تمثل حتى الآن خندقاً معادياً يقطع الطريق أمام أية محاولة عربية لحشد كل الطاقات والقوى المتاحة. والأخطر من هذا أن تلك الاتفاقية أدخلت متغيراً انقلابياً على الإدراك السياسي العربي الذي درج على التعامل مع العدو الصهيوني باعتباره العدو اللدود الذي اقتحم الوطن العربي بالقوة وفرض عليه مشروعه الاستيطاني.

5- انسياق بعض الشرائح داخل المجتمعات العربية من أصحاب المصالح الخاصة والضيقة وراء دعاوي التطبيع، إضافة إلى تزايد عدد السماسرة العرب المرتبطة مصالحهم بمؤسسات اقتصادية أمريكية، وقد شكلت هذه الظاهرة في جملتها مناخاً معاكساً لأي توجه يسعى إلى وضع استراتيجية للمقاومة، باعتبار أن مثل هذا التوجه يقضي على مصالحهم الخاصة.

وقد أدت العوامل الخارجية إلى تعثر الاجتهادات السياسية في صناعة استراتيجية شاملة للمقاومة، لعل أبرز هذه العوامل:

1- استغلال قوى التدخل الخارجي وعلى رأسها أمريكا علاقاتها الوثيقة مع معظم الأنظمة العربية في ترويضها والضغوط عليها أحياناً لتبقى دائرة في فلكها.

2- استدراج الدول العربية إلى دوامة المبادرات والمشاريع السياسية التي تحمل واجهة التسوية السلمية، بينما هي في جوهرها منعطفات لزجّ هذه الدول في مزالق جهود دبلوماسية حلزونية المسار تستهدف استهلاك الوقت واستنزاف الجهد بدعوى أنها تقرب الطريق نحو السلام.

3- تحكم أمريكا في النظام الدولي وسيطرتها على أنشطة المنظمات والهيئات الدولية لبث مفاهيم جديدة وهي تسقط القرارات والمراجع الدولية التي أقرت الحقوق العربية المشروعة وتدين الصهيونية بالاغتصاب والعدوان.

يقدم لنا النموذج الإيراني هنا دروساً هامة في سياق ردع التحرش الأمريكي عسكرياً، فقد كان من الثابت أن الولايات المتحدة تبحث بشغف كبير منذ حرب الخليج الثانية عام 1991 عن أية ذريعة لضرب إيران عسكرياً، سواء في سياق اتهامها بالوقوف وراء بعض العمليات الإرهابية التي تعرضت لها القوات الأمريكية في السعودية عامَيْ 1995 -،1996 أو بسبب الشكوك المثارة حول برنامجها النووي، وبدا واضحاً أن الشكل الأكثر احتمالاً للعمل العسكري ضد إيران هو شكل القصف الجوي الصاروخي والعمليات المحدودة.

إلا أن إيران سعت من ناحيتها إلى التحسب لاحتمالات حدوث مثل هذا العدوان الأمريكي بأساليب عديدة أبرزها: تعزيز قدراتها العسكرية في جميع المجالات مع إطلاق تهديدات متنوعة بشأن ردود الفعل العسكرية التي يمكن أن تقدم عليها رداً على هذا العدوان حيال حدوثه. ودأب المسؤولون الإيرانيون في هذا السياق على التلويح بإمكانية إقدامهم على إغلاق مضيق هرمز في وجه الملاحة الدولية، وكان الإيرانيون يدركون تماماً خطورة مثل هذه التهديدات، لأنه سوف يمثل في حالة حدوثه خسارة فادحة للاقتصاد الدولي، إذ تمر عبر هذا المضيق 50% من صادرات النفط العالمية، مما سيؤدي إلى تعطيل حركة الصادرات النفطية من الخليج إلى العالم الخارجي، وسعى الإيرانيون إلى إعطاء مصداقية إضافية لهذا التهديد عبر امتلاك غواصات تقليدية وقطع بحرية متطورة، فماذا نحن فاعلون أمام جرح مؤلم لجسد الأمة العربية والإسلامية؟!

العدد 1104 - 24/4/2024