مشاعية الكتابة «التناص»

ثمة دائماً شيء آخر عند بورخيس، شيء أصلي ربما نموذج يفوق التصور غامض وموغل، لكنه مجاور ومحايث على نسب وشبه وكأن النصوص عنده تولد من نصوص أخرى. أو تبدأ من نص أولي ثم تتعدد وتتكاثر وتستمر بتعدد القراءات وإعاداتها.كأن النصوص هي محدثات الأصل القديم الذي لا توقيت له.والأرجح أن المؤلفين والشعراء بهذا المعنى يفوزون بمرتبة خدم النصوص وسدتها وصفائها.إنهم حراس مكتبة العالم، ومناوبو سهرهم على مصنفات الأبدية.

ألا يحيل جانب من هذا إلى ديريك والكوت: (الموتى هم محررو نصوصنا الحقيقيون) وإلى موت المؤلف بحسب رولان بارت. أليست الكتب والنصوص عزاءات لا حصر لها لموتى مجهولين لا أحد باستطاعته أن يرشدنا إليهم. إذ كل كتاب مفازة، وكل قصيدة ظلال، وكل رواية فسيفساء.

حتى الكتاب المقدس لا ينجو من المتاهة التي يشيِّدها بورخيس، الذي يروي أن برنارد شو سئل مرة عما إذا كان يؤمن بأن الروح القدس هو الذي كتب التوراة، فأجاب: (كل كتاب يستحق أن تعاد قراءته، هو كتاب كتبه الروح القدس).

(النتاجات كلها هي نتاج كاتب واحد مجهول الهوية وغير مقيد بالزمن).

هذا هو إيمان بورخيس وامتنانه حيال فائق الصفات، بينما المؤلفون الآخرون يوسعون نصاً أزلياً، كبيراً ضائعاً، نصاً كبيراً تسبح في ملكوته النصوص التالية واللاحقة.الكتب هي مرايا كثيرة لمجلد عملاق لا يمكن قراءته مرة واحدة، الكتب تعيده وترسمه كل مرة ومن منظور مختلف، وتظل تكرر ذلك لأن الكتب لا تتذكر، وهذا ما يجعل استمرار الكتابة أمراً ممكناً.

الكتابة استضافة لا نهائية، إنها أضحيات وقرابين تختلط فيها التقدمات والنذور، فلا يبقى في النهاية سوى ذبيحة عملاقة موشومة بملايين الأسماء، التي تصير بلا معنى. الأمر الذي من شأنه أن يطيح بعصبية الكتابة ودلالتها الشخصية، العصبية التي تجعل من القرابة بين النصوص حقيقية ومواتية.

 مشاعية الكتابة: هل هذا ما يريده بورخيس، أم أن الأمر لا يعدو كونه ادعاء شخصياً يتعلق بالقراءة أكثر مما يقترب من الكتابة وأدائها الفردي.

إن إمكانية مجهولية القراءة تبدو أكثر معقولية من مجهولية الكتابة. رغم ذلك يظل بورخيس سؤالاً ملحاً، لا يقيم وزناً لأية إجابة. إذ يرى أن التاريخ الأدبي لا يقيم وزناً لأية إجابة. كما أن التاريخ الأدبي ليس هو تاريخ طرائق الكتابة وأغراضها، بقدر ما هو تاريخ طرائق الكتابة ومنطقها، ومن هذا المنظور تختلف الآداب باختلاف الطريقة التي تقرأ بها، أكثر من اختلافات النتاجات ذاتها.

لا يعلق بورخيس على عماه بوصفه إعاقة قدرية تفترض جبروت، عاهة، تزدري عالماً لم يعد يرى، الأرجح أن فقدان البصر يتداخل مع الكتابة والإقامة في الحياة كمهارة من مهارات الأداء.

لقد ظل بورخيس يتوهم بأنه ليس أعمى، يشتري كتباً ويملأ بها داره. إنه يصف تلك اللحظة الطويلة بين العتمة والضوء، كأنه يكتسب العتمة مقابل خسارة الضوء (لم تكن لحظة حاسمة ومحددة، حل ذلك مثل غسق صيفي بطيء. كنت مديراً للمكتبة الوطنية وبدأت أجد نفسي شيئاً فشيئاً محاطاً بكتب بلا أحرف، ثم فقد أصدقائي وجوههم، ثم لاحظت أن لا أحد في المرآة.

ننتبه كيف أن الضمائر تحيل إلى التباس الفعل نفسه، فالأصدقاء هم الذين يفقدون وجوههم، أما الفعل فلا يفقدها إنما لا يراها منذ الآن، أما صورته في المرآة فتبدو كأنها هي التي لم تعد تظهر فيها، أما هو فإنه يقف أمامها وسيظل يقف ملاحظاً أن صورته أيضاً لا تراه:

لست أدري أي وجه ينظر إلي

عندما أنظر إلى وجه المرآة

لست أدري أي ترقب قديم ينعكس فيها

بغضب صامت ومتعب

بطيئاً في ظلي، أتفحص يدي

ملامحي الخفية

لو كنت أستطيع رؤية وجهي

لعرفت من أكون في هذا الغروب النادر.

تثير كتابة بورخيس (هل نستطيع تحديد ذلك بدقة) مفهوماً يمكن وصفه بعولمة الأجناس الأدبية. إذ إن النظام الدلالي والترميزي والأدائي والسردي، يتعرض عند بورخيس إلى نوع من الخلخلة وإعادة الاعتبار والتضمين والتناص. بورخيس يقدم بجد نصاً مختلفاً، أو بالأحرى نصاً يصعب تصنيفه أو إحالته على شكل تعبيري محدد، ولو بدا في ظاهره محدداً. هنا تلغى المسافة الفعلية بين الشعر والنثر، بين الأدب والنقد، بين القصة والمقالة، بين الأسطورة.كتابة بورخيس تنتسب بجدارة إلى مفهومه الشخصي للكتابة التي هي بشكل من الأشكال نص يتكون باستمرار، نص لا يفقد راهنيته لأنه يمحى ويكتب بالتناوب، ولأنه يعلق راهنيته على زمن لا زمن له.

الكتابة ليست سوى مدونات أو أطروحات تضاف إلى أطروحة كبرى، بما يجعل هذه المدونات مشاعاً، ويجعل من القراءة تأليفاً حقيقياً، ومن التأليف عملاً ثانوياً.

هكذا يمكن لبورخيس أن يرى نفسه لنفسه ولمؤلفاته، نسباً متشابكاً، ويمكنه أن يزعم فيما هو يقرأ ألف ليلة وليلة (كتابه الأثير) أنه يؤلفه الآن، في التو واللحظة. إن نتاج بورخيس ينحل في كل مكان وزمان، هو الذي قال: (إن ذكرياته هي ذكريات الكتب التي قرأها).

العدد 1105 - 01/5/2024