السياسات الاقتصادية ودورها في الخروج من الأزمة

مما لا شك فيه أن للسياسات الاقتصادية تأثيراً مباشراً على جميع الفروع الاقتصادية، وخاصة على القطاعات المنتجة، لكن السؤال هو: هل التأثير سيكون سلبياً وكابحاً للنمو الاقتصادي (وخاصة للإنتاج) أم سيكون إيجابياً وحافزاً للنمو الاقتصادي والإنتاج؟

وتدعو هذه الإشكالية إلى طرح مسألتين أساسيتين:

الأولى: تدور حول المناخ العام السياسي والأمني.

والثانية: تتعلق بالخلفية النظرية التي تحكم السياسات الاقتصادية.

1ـ تلقي الأوضاع السياسية والأمنية القائمة حالياً في سورية، بثقلها، على الأوضاع الاقتصادية، وتتخذ انعكاسات هذه الأوضاع على القطاعات المنتجة، السمات البارزة التالية:

أـ شل الحركة الزراعية (النباتية والحيوانية)، فبسبب انعدام الأمن تكاد تتوقف العمليات الزراعية في مناطق العمليات العسكرية،  كما حال الإرهاب دون زراعة مساحات واسعة، وخاصة الحبوب والقطن.. ومن زاوية أخرى، فإن إنتاج الأشجار المثمرة والخضروات تعرض لمشكلات تتعلق بالنقل والتصريف، إلى جانب تراجع عمليات القطف وتعرض المساحات المزروعة لشتى أنواع المخاطر المتعلقة برعاية المزروعات ومكافحة الآفات الزراعية، والتخريب الذي تمارسه الوحدات الإرهابية. وتعاني الزراعة عموماً من تراجع الخدمات التي تحتاجها مثل تأمين البذور والسماد والنقل وتصريف الإنتاج وتخلف شبكة التوزيع.

ب ـ تراجع إنتاج الصناعات التحويلية بسبب العمليات الإرهابية، التي نجم عنها تدمير عدد كبير من المعامل، وتراجع إنتاج ما بقي منها، وتستمر معاناة العامل التائه بسبب نقص المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج، وصعوبة تأمين قطع التبديل وعدم إمكانية التجديد والاستبدال لآلاتها، فضلاً عن صعوبة النقل والانتقال.

ج ـ تعاني القطاعات المنتجة إجمالاً من ارتفاع تكاليف الإنتاج (خاص المشتقات النفطية) ومن صعوبات التنقل وانعدام أمن الطرق.

د ـ تعاني القطاعات المنتجة من فوضى السوق، وعدم وجود شبكات توزيع، أو تخلف هذه الشبكات، وظهور وسطاء جدد مع تعددهم، فضلاً عن الحصار الذي تتعرض له بعض المناطق والبلدات والمدن، وداخل المدن (بعض الأحياء)، إلى جانب تجذر حالات من الاحتكار واستغلال الفرص.

ه ـ يعاني الاقتصاد الوطني بوجه عام، من العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الدول المعادية، وبعض الدول العربية والمجاورة، وبضمن ذلك الحصار الاقتصادي المفروض على المعاملات المالية والتجارية.

و ـ فاقم أوضاع القطاعات الاقتصادية المنتجة استيلاء العصابات الإرهابية على معظم آبار النفط، وتزايد عمليات التخريب لخطوط نقل النفط والغاز)، وإلى جانب ما سببه ذلك من إرباكات تتعلق بتوفير النفط الخام لمصفاتي النفط في حمص وبانياس، وإلى تعطل إمداد محطات توليد الكهرباء والغاز، إضافة إلى ذلك فإنه شكل معضلة كبرى في إمدادات المشتقات النفطية للاستهلاك المحلي، خاصة مع قرارات القوى المعادية فرض الحصار الجائر على سورية، وكان لاستخدام الوسائل البدائية في تكرير النفط الخام آثار بيئية وصحية هائلة ستمتد آثارها لسنين قادمة.

2ـ يقصد بالسياسات الاقتصادية تلك الإجراءات والقرارات التي تتخذها السلطة وتسترشد بها المؤسسات والأفراد العاملون في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وتستوحى السياسات الاقتصادية من أفكار نظرية اقتصادية معينة، كما تعبر عن مصالح قطاعات وفئات اقتصادية محددة.

ودون الدخول في تفضيلات نظرية قد لا يكون موضعها في هذه العجالة، نشير إلى أن الخلفية النظرية للسياسات الاقتصادية المتبعة من سورية قبل الأحداث، هي خلفية الليبرالية الاقتصادية الجديدة، الموصى بها من قبل المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوربي. وتتمحور هذه السياسات حول الخطوط العامة التالية:

ـ تحرير التجارة الخارجية، كقاطرة للنمو.

ـ تحرير الأسعار والأسواق الداخلية.

ـ تخفيض الضرائب على الفئات الغنية والشركات الكبيرة تشجيعاً للاستثمار.

ـ الإلغاء التدريجي للدعم المقدم من الحكومة لأسعار المواد الحياتية والاستراتيجية.

ـ إعاقة إصلاح القطاع العام والصناعي.

ـ اتخاذ خطوات جادة نحو الخصخصة.

وكان الهدف من (الدفع) لانتهاج هذه السياسات إضعاف الحكومة، والتخفيف من قدرتها على مواجهة ضغوط الخارج، والعمل على انخراطها في الاقتصاد العالمي والالتحاق بالعولمة، على أن يجري ذلك كله قبل تمكين الاقتصاد الوطني وتعزيز قدراته التنافسية.

وقد كانت نتائج اتباع السياسة الاقتصادية الليبرالية الانفتاحية والتحول نحو اقتصاد السوق:

1ـ إضعاف الدولة كنتيجة مباشرة لإضعاف الاقتصاد، وتسليم قيادة الاقتصاد لقلة من رجال الأعمال المتحالفة مع البيروقراطية الليبرالية، وقد تحقق ذلك بانسحاب الدولة من دورها الاقتصادي والاجتماعي، وخصخصة الاقتصاد السوري والسماح بتآكل القطاع العام الصناعي، وتجميد عمل ومؤسسات التجارتين الداخلية والخارجية ومهامها، وفقدان الدولة سيطرتها على احتياطات المواد.

2ـ فقدان هيبة القانون، وكثرة التجاوزات التي كان يقوم بها أصحاب النفوذ والحظوة.

3ـ إشاعة أجواء الفساد والإفساد، فقد أصبح الفساد ممارسة يومية تجتاح فئات المجتمع بكامله.

4ـ اتساع رقعة اقتصاد الظل وأصبح قسم هام من المعاملات الاقتصادية يتم خارج الأقنية الاقتصادية الرسمية، ويتصل بذلك تزايد عمليات تهريب البضائع من البلاد وإليها، تلك العمليات التي اتخذت، أيضاً، ستاراً لتهريب الأسلحة والممنوعات. ويتصل بذلك انتشار العشوائيات حول المدن الرئيسة الكبيرة، نتيجة لنزوح أعداد متزايدة من الريف.

5ـ إجراء تغيير جذري في الحامل الاجتماعي للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

فبعد أن كان هذا الحامل يتمثل في العمال والفلاحين وأصحاب الدخول المحددة والمتوسطة والكسبة والفقراء وفئات واسعة من التجار الوطنيين والحرفيين، أصبح الحامل الاجتماعي الفئات الغنية وأصحاب الحظوة والنفوذ من رجال الأعمال الجدد، واستعيض عن نقابات العمال والفلاحين وغرف التجارة والصناعة والزراعة التقليدية، بمجالس رجال الأعمال المشتركة مع الدول الأجنبية،كما استعيض عن جماهير الشعب بفئة قليلة من المحاسيب والأزلام، وللأسف تحولت المنظمات الشعبية إلى ما يشبه الدوائر البيروقراطية الرسمية.

 6ـ من خلال سياسة الانفتاح الاقتصادي، تم الترويج لثقافة العولمة والاندماج في الاقتصاد العالمي، بدلاً من سياسة استقلالية القرار الاقتصادي، وبدأت الدوائر البيروقراطية تتسابق في التملّق للمؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوربي، وتسعى لإرضائها، وتم اتخاذ إجراءات الالتحاق بالشراكة الأوربية ومنظمة التجارة العالمية بأبعد مما يريده ممثلو الشراكة وإدارة المنظمة، إظهاراً لحسن النية على حساب القرار الاقتصادي الوطني والمصالح الوطنية.

ويبدو أن هذه النتائج مطلوبة، مما يفسر سير الأحداث التي بدأت بمظاهرات ذات مطالب عادية تتعلق بالخبز والكرامة، وتحولت إلى عمليات إرهابية زعزعت أركان الدولة، ففي هذه الأجواء، تم إغلاق آلاف الورش والمعامل بسبب المنافسة غير المتكافئة تحت شعار (تحرير التجارة الخارجية ـ قاطرة النمو)، وازداد عدد العاطلين عن العمل، خاصة بين الشباب من خريجي الجامعة والمعاهد، واتسعت دائرة الفقر، وتراجعت مكانة الإنتاج والمنتجين لحساب الاقتصاد العيني والخدمات والأعمال الهامشية.

وفي ظل هذه الأوضاع قامت حركة الاحتجاج في الربع الأول من عام ،2011 ودخلت من خلالها أعمال تخريب المؤسسات الحكومية وتدميرها، وظهر السلاح والأعمال الإرهابية على نحو غير مسبوق، فتوضحت أبعاد المؤامرة التي كانت تحاك لسورية من أجل تدمير اقتصادها وتفتيت مجتمعها والقضاء على وحدتها واستهداف قواتها المسلحة.

وفي ذلك كله، ازدادت معاناة الشعب بجميع فئاته، وخاصة هؤلاء الذين اضطروا إلى مغادرة منازلهم، فلجؤوا إلى مراكز الإيواء في الداخل، وإلى مخيمات الذل في البلدان المجاورة، وإلى الشوارع والساحات العامة والتشرد في أوربا.

وفي الداخل عاش السكان حالات متفاوتة من الرعب والخوف من القنابل والصواريخ، وزاد من المعاناة فقدان المواد والسلع الحياتية، وإن وجدت، فغلاء الأسعار والاحتكار واستغلال تجار الأزمة.

وما فاقم الوضع الاقتصادي والمعيشي هو استمرار نهج السياسات الاقتصادية والليبرالية والتخطيط والفوضى في السياسات والقرارات الاقتصادية، وخاصة ما يتعلق بتوفير المواد الحياتية للسكان، ومستلزمات الإنتاج الزراعي والصناعي. ويتضح انسداد أفق الحلول مما يبدو من حالات الفوضى والاحتكار والغلاء غير المبرر في الأسواق، والتلاعب بسعر صرف العملة الوطنية. وقد استخدم ذلك وسيلة لزيادة متاعب الإدارة الاقتصادية وإرباكها من جهة أولى والضغط على أسباب معيشة السكان من جهة ثانية، وسلاحاً فعالاً في الحرب العبثية التي يخوضها الإرهاب ضد الدولة والوطن والشعب من جهة ثالثة.

ومما فاقم الأوضاع الاقتصادية، غيابُ استراتيجية حكومية واضحة لمواجهة تلك الأوضاع، فمنذ البداية كان التوجه الإعلامي هو حالة الإنكار لما يحصل، وإشاعة أجواء الاطمئنان، وأن الأمور بخير وستنتهي الحالة الطارئة قريباً، فتعود الأمور إلى طبيعتها، وكان ذلك بديلاً عن الاعتراف بالمشكلة والعمل على مواجهتها بعلمية وشجاعة وشفافية.

ونظراً لارتباط الأوضاع الاقتصادية وتردي الحالة المعيشية للسكان بحالة الأمن والأمان، فإن الجهود الحكومية والشعبية يجب أن تنصرف إلى:

ـ دعم جهود الجيش العربي السوري في مكافحة الإرهاب، وإعادة الأمن إلى البلاد.

ـ منع قوى الإرهاب من الحصول على مناطق آمنة وحاضنة شعبية.

الاستمرار في إجراء المصالحات في القرى والأحياء.

إلى جانب هذا، يأتي دور السياسات الاقتصادية التي عليها أن تعمل من أجل:

ـ إعادة الاعتبار لدور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، والتوقف عن اتباع السياسات الاقتصادية والليبرالية السابقة للأحداث، وانتهاج سياسات جديدة تضع مصلحة الاقتصاد الوطني فوق كل اعتبار.

ـ إعادة ثقة الموطن باقتصاده وبعملته الوطنية، والانطلاق من تحقيق العدالة الاجتماعية في رسم السياسات، وخاصة تحقيق الانسجام بين الأجور والأسعار.

ـ توفير المناخ المناسب لإمداد المعامل والمزارع باحتياجاتها من مستلزمات الإنتاج، واتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الإنتاج الوطني ورعايته.

 ـ توفير المناخ المناسب لإمداد الأسواق المحلية باحتياجات المواطن من المواد الحياتية والمعيشية، وتسهيل حصوله عليها بأسعار مناسبة ومواصفات مناسبة، مما يستدعي التوسع في إقامة المؤسسات التجارية الحكومية، والتوسع في استخدام البطاقة التموينية.

ـ إعادة تشغيل المعامل المتوقفة أو المتضررة في القطاعين العام والخاص، وتقديم المساعدات والتعويضات المناسبة عن الخسائر.

ـ إعادة تأهيل المرافق العامة والبنية التحتية (ماء، كهرباء، طرق، صرف صحي..).

إن تحقيق ذلك مرهون باتباع سياسات اقتصادية واضحة وشفافة من شأنها إعادة دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي والتنموي، وتفعيل نشاط المؤسسات الاقتصادية الحكومية، وتشجيع إعادة تشغيل المنشآت الخاصة ودعمها. وتقديم المساعدات للمؤسسات العامة والخاصة في مجال تأمين التمويل اللازم، وتأمين مستلزمات الإنتاج، بأسعار مناسبة، وخلق الظروف الملائمة لحركة المواد وانسيابها من المنتج إلى المستهلك، مما يقتضي ضبط الأسواق وإعلاء شأن القانون وإحلال النظام. والعمل الحثيث لإعادة الاعتبار للعملة الوطنية ومنع التلاعب بها، وإحكام السيطرة على سعر الصرف والحد من المضاربات. وبذلك تكون السياسات الاقتصادية محفزة للإنتاج بدلاً عن أن تكون كابحة له. مع التأكيد على ربطها بالأهداف الاجتماعية (التشغيل، الصحة، التعليم).

إن ذلك كله يظل في حدود الشعارات، إن لم يقترن بخطوات عملية وجدية، مما يستوجب وجود إدارة قوية ونزيهة وفعالة من جهة، وتطبيق أحكام اقتصاد الحرب من جهة ثانية. بهدف الحصول على دعم المواطنين وثقتهم بالحكومة وسياساتها وإجراءاتها وإقرار حكم القانون، والابتعاد عن سياسة التبذير لتغطية القصور والعجز عن مواجهة المشكلات التي يتعرض لها المواطن في تأمين لقمة عيشه. وفي هذا الإطار يمكن البحث عن الصيغة التي تمكّن المواطنين من أن يكونوا مشاركين فعلياً في صنع القرار الاقتصادي ومتابعة تنفيذه والرقابة على أعمال الحكومة، والحد من الفساد والاحتكار، ووضع حد للمتاجرين بقوت الشعب والمضاربين بأسعار الصرف.

العدد 1104 - 24/4/2024