قواعد اللعبة تغيرت..الفلسطينيون لن يكتفوا بالغضب!

منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي ترامب قراره الجائر بالاعتراف بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي ونقل السفارة الأمريكية إليها، اجتاحت فورة غضب وتظاهرات ومواجهات الأراضي الفلسطينية وأنحاء واسعة من الوطن العربي والدول الإسلامية احتجاجاً على هذا القرار.. وعلى الرغم من أهمية هذه الاحتجاجات، فهي لم تعد كافية، بعد أن تغيرت قواعد اللعبة التي تسيدت العقود الماضية، والتي أطاحت بها الولايات المتحدة بجرة قلم من قبل رئيسها المتهور.

ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن قرار ترامب هذا لم يكن ذاتياً أو شخصياً، ذلك لأن الولايات المتحدة هي دولة مؤسسات تشريعية وأمنية وعسكرية، وأن أي قرار مهم لابد أن يمر عبرها، حيث يدرس بدقة متناهية للوقوف على مدى تأثيره على المصالح العليا للولايات المتحدة، لاسيما مثل قرار الاعتراف المذكور، لأنه يمس هوية مدينة محتلة حسب قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن الدولي، ولها مكانتها وأهميتها لدى مليار ونصف المليار من المسلمين ومئات الملايين من المسيحيين. وهذا يعني أن واشنطن لم تقدم على مثل هذه الخطوة (خبط عشواء) ومن دون تحضير مسبق لها، وتغامر بمصالحها، وبالتالي فهذا القرار قرار مؤسساتي مئة بالمئة ومدروس بدقة.

بالطبع إن قرار ترامب هذا لا يمكن عزله عن الأهداف المرسومة والمتوخاة من وراء تفجير (الحريق العربي)، أما ما يسمى (الربيع العربي) وفي مقدمتها إعادة تشكيل ورسم خريطة المنطقة وصياغة نظام جديد فيها، يقوم على قبول إسرائيل وتسييدها على المنطقة بأسرها، وهذا لا يتحقق إلا من خلال تصفية قضية فلسطين، ولهذا جرى استهداف ليبيا والعراق وسورية، ولاحقاً مصر واليمن ولبنان، كشرط لازم وضروري لتحقيق أهداف المخطط المذكور، لأن هذه الدول، وخاصة سورية، هي العقبة أمام هذا المخطط، لأنها القادرة على التأثير في مجريات الأحداث، وبالتالي تعرضت هذه الدول لحروب إرهابية شرسة عبر مجموعات إرهابية مسلحة، مثل داعش والنصرة وغيرهما، ارتكبت وماتزال ترتكب أبشع جرائم القتل والتدمير والتهجير تحت اسم (الثورة) والحرية.

نعود للقول إن فورة الغضب والتظاهرات الكبيرة لا تكفي وحدها، على أهميتها وضرورة استمرارها ضد خطوة ترامب التي أحدثت زلزالاً في المنطقة والعالم، لكنها لم تغب عن خطط البيت الأبيض الذي قرأ الواقع جيداً قبل الإقدام على هذه الخطوة المحسوبة، فقد استعد لها بضبط الإيقاع على المستوى الرسمي، تاركاً للشارع حرية التنفيس عن غضبه مع الاحتفاظ بإمكانية التدخل إذا خرجت الأمور عن سياقها، لكن الخطورة تكمن فيما هو قادم، لأن القرار ليس معزولاً عما سبقه وما سيتبعه، إذ إن المخاوف هي من قرارات أخرى صادمة قبل أن يستفيق الجميع من هول الصدمة.. والمقصود بذلك إفصاح إدارة ترامب عن أنها عازمة على أن تُقدم للفلسطينيين ما يرضيهم عبر (صفقة القرن) القادمة، ومحاولة التخفيف من وقع الصدمة الأولى بالقول: إن الوضع النهائي للقدس يتقرر على طاولة المفاوضات. والسؤال هنا: عن أية مفاوضات أو صفقة تتحدث إدارة ترامب، بعد أن أخرجت نفسها من رعاية عملية التسوية، وبعدما فقدت كلياً دور الوسيط النزيه، وهي لم تكن نزيهة طوال السنوات الماضية منذ اتفاق أوسلو حتى الآن!

إن ما لم تستوعبه إدارة ترامب أنها بقرارها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، إنما استهدف القلب النابض لأكثر من مليار ونصف المليار عربي ومسلم، وأن أي حديث عن صفقات وتسويات لم يعد ممكناً قبل التراجع عن هذا القرار الجائر.

 الفلسطينيون يدركون جيداً ما عليهم أن يعملوه، بعد أن عاد الصراع إلى مربعه الأول، وواهم كل من يعتقد أن الفلسطينيين سيكتفون بالتظاهرات والاحتجاجات للتعبير عن غضبهم، إلا أنهم بحاجة إلى توحيد صفوفهم وإعادة ترتيب بيتهم الداخلي، في الوقت الذي لم تعد فيه السلطة في رام الله قادرة على استيعاب هذا الغضب الشعبي وإدارته كما تأمل واشنطن منها.

يمكن القول إن قواعد اللعبة قد تغيرت فعلاً، والرد على قرار ترامب لم يعد فلسطينياً فحسب، بل هو مسؤولية جماعية، فلسطينية وعربية وإسلامية، وسواء تراجعت إدارة ترامب عن اعترافها هذا أم لا، فإن ذلك يسمح بالتأكيد أن هناك حراكاً جديداً واصطفافات جديدة تلوح في الأفق.

إن الأمر الذي لم تدركه الإدارة الأمريكية بعد هو أن أي فلسطيني لن يقبل بمشروع (صفقة القرن) التي تبشر بها، وأن الشعب الفلسطيني لن يقبل بدولة فلسطينية من دون القدس عاصمة لها، وأن هذا الشعب المناضل مستعد لخوض حرب المئة عام المقبلة للحلول دون التفريط بحقوقه المشروعة.

العدد 1105 - 01/5/2024