لماذا كان ماركس محقاً؟! (35)

لا يمكن بالطبع تقسيم الوجود الإنساني بين القاعدة والبنية الفوقية. حتماً لا. فهناك أمور لا تحصى لا تخص ما يُسمّى البنية الفوقية أو الإنتاج المادي. ومن الأمثلة القليلة عليها اللغةُ والجنس والظنبوب وكوكب الزهرة والندم الشديد ورقص التانغو ومستنقعات شمالي يورك في إنكلترا. والماركسية، كما رأينا، ليست قانوناً عالمياً. يمكننا بالتأكيد أن نصادف علاقات غير متوقّعة أبداً بين صراع الطبقات والثقافة. وبهذا المعنى تكون العلاقات الجنسية هامة بالنسبة للقاعدة المادّية، لأنها غالباً ما تؤدّي إلى إنتاج قوى إنتاج جديدة، نسمّيها نحن أطفالاً.

لاحظ أطباء الأسنان خلال الانكماش الاقتصادي عام 2008 زيادة ملحوظة في أمراض الفكّين الناجمة عن صرير الأسنان، الناجم عن التوتر النفسي لدى العديد من مرضاهم. وإزاء الكوارث المتلاحقة، لم يعُد صريرُ الأسنان استعارة مكنيّة، بل حقيقة واقعة. عندما كان الكاتب مارسيل بروست لايزال في رحم أمّه، خافت أمّه البرجوازية العريقة خوفاً شديداً عند اندلاع ثورة الكمونة الباريسية الاشتراكية. ويعتقد كثير من المعقّبين أن خوف الأم هذا قد أدى إلى مرض مارسيل بالربو المزمن طيلة حياته. وعلاوة على ذلك، هناك نظرية تقول إن جُمل مارسيل الطويلة والغنية بالمنعطفات هي بمثابة تعويض عن ضيق نفسه. وهكذا نجد إذاً علاقة بين بُنية جُمل بروست وكمونة باريس.

من يعتقد أن البنية الفوقية نشأت كي تقوم بالمهام التي تقوم بها فعليّاً (de facto)، فقد أخطأ فهم النظام. قد يصحّ ذلك بالنسبة للدولة، لكنه ليس كذلك في الفن. كما لا يمكن الادّعاء بأن كل ما يحصل في المدارس والصحافة ودور العبادة والدولة يخدم في دعم النظام الاجتماعي الراهن.

عندما نعلّم الأطفال في المدارس كيفية ربط شوّاطات الأحذية، أو عندما يتنبّأ الراصد الجوّي بالطقس، فلا علاقة لكل ذلك بما هو بنية فوقية. ولا يمكن بذلك الدفاع عن علاقات الإنتاج القائمة. صحيح أن الدولة ترسل قوّاتها الخاصة لتفريق المظاهرات السلمية بالهراوات، لكن أجهزة الشرطة تبحث أيضاً عن الأطفال التائهين أو المشرّدين.

عندما تحرض الصحافةُ التي تعتمد على الإثارة المواطنين ضد المهاجرين الوافدين، تكون قد تصرّفت بوحيٍ من البنية الفوقية. وعندما تكتب عن حوادث السير، فمن المرجّح ألا يكون الأمر كذلك. رغم ذلك، يمكن استخدام حوادث السير دائماً ضد الحكومة. إذ يُحكى أن مساعدي تحرير زوايا الأخبار السياسية في جريدة Daily Worker) ) الناطقة باسم الحزب الشيوعي البريطاني سابقاً تلقوا تقارير عن حوادث سير مع التعليمات:

للمعالجة من مُنطلقٍ طبقي، يا رفيق!.. وبالتالي فإن القول بأن المدارس ودور العبادة ومحطات التلفاز تعود إلى البنية الفوقية، سيكون قولاً مشوِّشاً. علينا ألا ننظر إلى البنية الفوقية على أنها مكان بل مجموعة من السلوكيّات. ولربما رأى ماركس هذا الأمر غير ذلك، إلا أنه تدقيق مفيد لوجهة نظره.

صحيح أنه يمكن استخدام كلَّ شيء لدعم النظام القائم. فعندما يخفّف اختصاصي الأرصاد الجوية من مخاطر الإعصار القادم حتى لا يُقلق الخبرُ المشاهدين، ولأن المواطنين القلقين لا يعملون عادة بهمّة المواطنين المرتاحين نفسيّاً ونشاطهم، يكون قد تصرّف كعميلٍ للسلطة الحاكمة. لايزال الرأي العجيب قائماً بأن الكآبة هدّامة، حتى في الولايات المتحدة المشهورة بتفاؤلها المرضي. على الرغم من ذلك، يمكننا القول من حيث المبدأ بأن هذه المؤسسات تتصرف أحياناً لصالح البنية الفوقية، وأحياناً أخرى لا تفعلها. إن تعبير (البنية الفوقية) يتطلّب منا أن ننظر إلى أي تصرّف في سياقه المعيَّن. فالأمر هنا يتعلّق بمفهومٍ علائقي يسأل عن مدى علاقة نشاط معيَّن بنشاطٍ آخر. يقول جيرالد كوهين: (يشرحُ المفهومُ مؤسساتٍ غير اقتصادية بواسطة الاقتصاد). إلا أنه لا يفسّر جميع المؤسسات ومهامها ولماذا نشأت أصلاً.

كان ماركس في حججه رغم ذلك ثاقب النظر، أكثر مما قد تجعلنا الاعتبارات الآنفة الذكر نظن. فالأمر لا يتعلّق بمعرفة أي أشياء تخصّ البنية الفوقية وأيّها لا تخصّها، وإنما يتعلّق بالقناعة بأننا، عندما ندرس المجتمعات الطبقية من حيث القانون والسياسة والدين والتعليم والثقافة، نجد أن معظم ما تقوم به هذه المؤسسات يدعم النظام الاجتماعي السائد. وهو تماماً ما كان متوقّعاً. إذ لا يوجد مجتمع رأسمالي، مثلاً، يحرّم المُلكيّة الخاصة أو يوضّح للأطفال في المدارس باستمرار مساوئ التنافس الاقتصادي. صحيح أننا نجد العديد من الأعمال الفنية والأدبية التي انتقدت الوضع القائم بقسوة. ولا يخطر ببال أحدٍ إطلاقاً أن يتهم Percy Bysshe Shelly وWilliam Blake وMary Wollstonecraft) وEmely Bronte وCharles Dickens وGeorge Orwell وD.H.Lawrenceبأنهم مارسوا دعاية صريحة لصالح النظام السائد.

ومع ذلك، عندما ننظر إلى مجمل الأدب الإنكليزي، نجد أن النقد نادراً ما وصل إلى حدّ رفض نظام المُلكية القائم. تحدَّث ماركس في كتابه (نظريات حول القيمة الزائدة) عن (الإنتاج الفكري الحرّ) الذي عدَّ الفنَّ ضمنه، بعكس إنتاج الإيديولوجيا. لربما علينا أن نقول بشكل أكثر دقّة بأن الفن يشمل الاثنين معاً.

في رواية توماس هاردي (في الظلام) (يكتشف في يوم من الأيام الحرفيُّ الفقير جود فاولي الذي يسكن في أريحا، الحي العمالي لجامعة أكسفورد، أن حياته لا تجري بين قمم أبراج الجامعة وباحاتها، وإنما (بين عمال تلك المنطقة الفقيرة التي يقطن فيها والتي لا يعدّها زوار المدينة الشهيرة والمعجبون بها جزءاً منها. ومع ذلك لايستطيع الطلاب المجدّون والمفكّرون العظام العيش دون عمل هؤلاء المواطنين البسطاء. هل تعبّر هذه الكلمات (العلقم) عن نموذج (القاعدة البنية الفوقية) الماركسي؟ ليس تماماً. هي تشير، وفق ماركس، إلى أن أي عمل فكري يقتضي وجود – عمل يدوي.

جامعة أكسفورد هي (البنية الفوقية) لـ(القاعدة) أريحا، الحي العمالي الفقير. ولو اضطر أساتذة الجامعة للقيام بمهامّ الطبّاخين وعمال التمديدات الصحية والحجّارين وعمال المطبعة، لما بقي لديهم وقت لمزاولة مهامّهم الأكاديمية. كلُّ عملٍ فلسفي يتطلّب وجود جيشٍ من العمال اليدويين المغمورين، كما هو الحال في كلِّ سيمفونية أو دار عبادة. لكن، وكما رأينا، فإن ماركس يقصد أكثر من ذلك بكثير. لا يتعلَّق الأمر عنده بأنه يجب أن نأكل، حتى نستطيع دراسة أفكار أفلاطون، وإنما أيضاً بأن طريقة تنظيم الإنتاج المادّي ستؤثّر في أفكارنا ومواقفنا من أفلاطون.

ليس مهما أنه يُفكَّر في جامعة أكسفورد، وإنما كيف يُفكَّر. فأفكارُ علماء أكسفورد مطبوعة، كتفكير البشر الآخرين، بحقائق عصرهم المادّية. لكن أغلبهم لن يفسّر أعمال أفلاطون، أو غيره من المفكّرين، بطريقةٍ تُشكِّك في الحق في مُلكية خاصة أو نظام ضمان اجتماعي، وما شابه. وعندما تقدَّم جود إلى عميد إحدى كليّات الجامعة بطلبٍ يرجو فيه إرشاده إلى الطريقة التي يمكنه بواسطتها أن يصبح طالباً في تلك الكلّية، أتاهُ الجواب الصاعق بأنَّ من مصلحة عاملٍ مثله ألا يُصبح طالباً.

من مهزلة الأمور أن توماس هاردي، مؤلف الرواية، ذاته، كان سيوافق على هذه النصيحة، وإن كان لسببٍ آخر غير السبب الذي ذكره عميد الكلّية (لماذا يجب أن يكون هناك بنيات فوقية عموماً). وهذا سؤال مختلف تماماً عن: لماذا لدينا فن وقانون وديانة؟ هناك أجوبة عديدة عن هذا السؤال. لكننا نسأل هنا عن سبب اضطرار الفنّ والقانون والدين إلى تبرير النظام القائم ودعمه؟ والجواب بسيط ومختصر: لأن (القاعدة) متخاصمة فيما بينها. بما أنها تستند إلى الاستغلال، يكتنفها كثير من الخصومات. ومن واجب البنيات الفوقية تنظيم هذه النزاعات وتثبيتها والاستفادة منها. البنيات الفوقية هامة، لأن هناك استغلالاً. ولو لم يكن الأمر كذلك، لكان لدينا فن وقانون ولربما ديانة أيضاً، ولكان دورُهم مختلفاً عن الدور المشبوه الذي يقومون به الآن، ولاستطعنا، أكثر من ذلك، التحرّر من القيود والانكباب عليها بحرّية أكبر.

نموذجُ القاعدة البنية – الفوقية شاقوليّ يمكن أن نتصوّره أفقياً.. في هذه الحالة ستكون القاعدة الحدَّ – الأقصى لما هو ممكن سياسياً، وستتعارض القاعدةُ في النهاية مع متطلّباتنا، ولن تستجيب لأي شيء عند الموافقة على جميع الإصلاحات الأخرى. يتمتّع هذا النموذج إذاً بأهميّة سياسية. عندما يعتقد أحدنا أنه يمكن تغيير أركان المجتمع ببساطة عن طريق التأثير في تفكير الناس أو تشكيل حزب سياسي جديد، فيمكن أن نقول له بأن هذه الإجراءات قد تكون أحياناً هامة جداً، إلا أنها ليست بالمطلق ما يحدِّد اهتماماتهم، وأن عليه أن يوجّه طاقاته إلى أهداف أكثر فائدة. فالقاعدة هي العقبة الأخيرة التي تصطدم بها السياسة الاشتراكية باستمرار، وهي الخط الأخير كما يسمّيها الأمريكان. وبما أن الأمريكان يقصدون أحياناً بتعبير الـ bottom line المال، لا يدري المواطنون في (بلاد الأحرار) إلى أيّ مدى هم ماركسيّون. وهذا ما اتّضح لي عندما سافرتُ قبل عدة سنوات مع وكيل كلية العلوم الإنسانية في جامعةٍ رسمية في وسط الغرب الأمريكي عبر حقول الذرة المزدهرة، فألقى نظرة على هذه الروعة الموفورة الصحة وقال: (سيكون المحصول جيّداً هذا العام، ربما يجلب لي ذلك عدة أعضاء جُدُد في هيئة التدريس).

ليس المادّيون إذا مخلوقاتٍ بلا روح.. وإذا كانوا كذلك، فلا يعود الأمر إلى أنهم يعتنقون المذهب المادّي.

 

تأليف: تيري إيغلتون

العدد 1105 - 01/5/2024