المرأة ما بين التعليم والعمل والواقع

من البديهي، أن يرتقي العلم بمستوى حياة الفرد بكل أبعادها وعلى مختلف المستويات، باعتباره يفتح آفاقاً أوسع للتفكير ورؤية الأمور والأشياء من منظار مختلف تماماً، ومتجاوزاً الكثير من العقبات والعراقيل التي تُعيق مسيرة الإنسان الأمّي. فالعلم يضع الحقائق في مسارها الصحيح لتكون عوناً للإنسان في مختلف المجالات والاتجاهات، للوصول بالمجتمع عموماً إلى حالة من الرقي والتحضّر والازدهار في كل المجالات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية… إلخ.

من هنا كان التعليم ركيزة أساسية من ركائز التنمية والتطور، ويحتل مرتبة متقدمة في خطط وبرامج الحكومات الساعية إلى النهوض بمجتمعاتها نحو التقدّم والعدالة والمساواة. كما أنه هدف أساسي لكل أسرة تصبو لأن ترى أبناءها على مستوىً عالٍ من العلم، يحوزون شهادات تؤهلهم لخوض غمار الحياة بثقة وأمان. لذا كان تعليم الفتيات هدفاً أساسياً لدى جميع المطالبين بحرية وتحرر المجتمع من التخلف والعبودية، كما كان شعاراً رئيسياً للتنظيمات النسائية التي ظهرت مطلع القرن الماضي من أجل الارتقاء بالمجتمع الذي لا يمكنه أن يخطو نحو الحضارة ونصفه مشلول ومقيّد بالأمية والجهل والتخلّف، لأن المرأة نصف المجتمع وتعمل على تربية كافة أبنائه، فإذا ما نالت نصيبها وحقها من التعليم، كان المجتمع متسلحاً بالوعي الذي يضعه في مصاف المجتمعات المتحضّرة والراقية.

وفعلاً، ولجت بعض الفتيات ميادين العلم منذ وقت مبكّر وإن كان على نطاق ضيّق ومحدود من قبل بيئات منفتحة، وهكذا حتى صار التعليم بالنسبة للفتاة حالة طبيعية في معظم البيئات الأخرى وإن كان في بعضها لمرحلة أولية تخلصها من إرث الأميّة. وبفضل التعليم دخلت الفتاة ميادين العمل التي اقتصرت في البداية على مهن محددة كالتمريض والتعليم، ثم اتسع نطاق عمل المرأة ليشمل ميادين أخرى بعضها كان حكراً على الرجل. فكان لتعليم وعمل المرأة أثرهما الإيجابيين على الأسرة والمجتمع، إذ ساهما في رفع سوية الأسرة مادياً، وفي دعم خطط التنمية المحتاجة أبداً لجهود جميع أبناء المجتمع. إضافة إلى أن عملها كان أحد أهم عوامل تحررها من الاتكالية والتبعية لذكور الأسرة.

ولا يمكننا هنا أن نُغفل دور العلم في توسيع آفاق مدارك المرأة وانفتاحها على عوالم كانت عوناً لها تجاه نفسها وإدراكها للكثير من حقوقها أولاً، ومن ثم تجاه الأسرة كأم ارتقت بأساليب التربية والتعامل مع الأبناء، وكزوجة أو ابنة أو أخت أدركت أهمية دورها في تنمية وتفعيل وتوطيد العلاقات الاجتماعية، إضافة إلى المساهمة الفعّالة في تحسين مستوى الأسرة مادياً من خلال تحمّل كافة الأعباء والمتطلبات كشريكة أساسية في هذه المهام. 

ولكن، هل يمكننا القول أن التعليم والعمل قد أخرجا المرأة نهائياً من بوتقة دورها التقليدي في المجتمع..؟ وهل ساهما فعلياً في تغيير نظرتها لذاتها وتعاملها مع المحيط بشكل إيجابي..؟ 

أعتقد أن الجواب لن يكون بالإيجاب لعدة أسباب، أهمها:

1- أن غالبية النساء سواء كنّ متعلمات أو عاملات ما زلن عالقات وبإرادتهن في بوتقة القيم الاجتماعية والدينية التي تؤطّر وتقيّد دورهن وعلاقتهن مع المحيط، لاسيما الرجل، وبذا لم نتلمّس أثراً كبيراً للعلم والعمل على نظرتهن لذواتهن ودورهن في الحياة، مما أبقاهن رغم ما يحملنه من شهادات علمية أميّات- تقليديات اجتماعياً وفكرياً من حيث أساليب وطرائق تعاملهن في الحياة، وهذا ما يُبقي على النظرة الدونية للمرأة اجتماعياً وثقافياً.

2- في العلاقة مع الرجل، ما زالت بعض أولئك النساء تُمارسن دوراً تقليدياً قوامه الأنوثة المُفرطة في كل الاتجاهات، لاسيما تلك المتعلقة بالأدوار الاجتماعية في الأسرة، فلا تخرج من عباءة المرأة في باب الحارة، مُلقية كافة الأعباء المادية على الرجل منذ تأسيس بيت الزوجية وحتى وجود الأبناء رغم أنها تعمل ولها دخل مادي، لكنها تحتفظ به لذاتها عملاً بالتشريع الذي يفرض على الرجل تأمين كافة متطلباتها وأولادها بغض النظر عن قدرته وإمكاناته المادية. إضافة إلى ربط حياتها ومستقبلها، وحتى وجودها كله بالرجل، تسعى جاهدة للزواج بكافة الأشكال وإن لم يكن الرجل مناسباً لها اجتماعياً أو فكرياً أو ثقافياً، وإن لم تحظَ بهذه الفرصة، تندب حظها باستمرار لأنها لم تجد الرجل الذي يحميها ويكون عوناً لها في الحياة من وجهة نظرها، وهنا نجد أن المرأة ذاتها تُعزز نظرية قوامة الرجل على المرأة.

3- لم نرَ تطوراً يُذكر على صعيد تربية الأبناء لدى غالبية المتعلمات اللواتي ما زلن يتّبعن طرقاً تقليدية في التربية والعلاقة مع الأبناء، مكرّسات لمنظومة تربوية تمييزية متخلفة من حيث منح الذكر امتيازات ممنوعة على الأنثى، مُتجاهلات ما أصابهن من تمييز وربما عنف على يد الأب أو الأخ، وهذا ما يُطيل أمد التمييز واللامساواة بين الجنسين في المجتمع.

جهل الغالبية العظمى من النساء المتعلمات والمثقفات أيضاً لحقوقهن الاجتماعية والقانونية والشرعية، إذ لم نجد الرغبة لديهن في البحث والتمحيص عن حقوقهن، لاسيما إذا ما تعرّضت إحداهن لمشكلة اجتماعية كالطلاق أو الإرث أو ما شابه، وبذا تبقى أسيرة ورهينة تسلط الرجل وهيمنته على حياتها ومصيرها.

4- قبول غالبية النساء وعن قناعة أكيدة بالأعراف والقيم الاجتماعية التي تحرمهن حقوقهن الشرعية والقانونية، كالإرث مثلاً، رغم أنها كانت من مؤسسي أو داعمي تنمية ذلك الإرث العائلي لاسيما في البيئات الفلاحية، فتراها تتنازل وببساطة وقناعة عن حقها خشية أن تخسر أسرتها من جهة، وخشية النبذ الاجتماعي التقليدي من جهة أخرى، في ذات الوقت الذي تراها وأبناءها يعانون ضنك العيش وشظفه.

2- تُمارس العديد من أولئك النساء عنفاً على بنات جنسهن عنفاً لا يقل عن عنف المجتمع، من حيث تناول الحياة الشخصية أو العامة، أو الوقوف في وجه المتميّزات والناشطات أو الداعيات إلى تحرر المرأة، مما يُدعّم مقولة المرأة عدو المرأة، في حين يُفترض بهن الاستفادة من علمهن، وتعزيز حضور ودور أولئك الناشطات بالمساهمة الجادة والفعّالة معهن، بدل التصدي لهن بقيم وأفكار بالية تمارسها المرأة ربما أكثر من الرجل.

6- تحمل العديد من المتعلمات ذهنية تفكير تقليدية متخلفة ومفعمة بتمجيد الخرافة والسحر والمعتقدات البالية، وليس غريباً أن ترى امرأة جامعية تلجأ لشيوخ التنجيم وإلى طرائق ووسائل متخلفة من أجل حل بعض مشاكلها العالقة كالتأخر في الزواج، أو عدم الإنجاب، أو في حالة زواج زوجها من امرأة أخرى وما شابه من مشكلات، ضاربة عرض الحائط بشكل واعٍ أو غير واع بالعلم والشهادة العلمية التي تحملها.

بعد هذا، يمكننا القول أن العلم والعمل بكل أبعادهما وآفاقهما، لم يتركا على هذه الشريحة من النساء أثرهما المُرتجى والمأمول في تغيير واقع ووضع المرأة المتشبثة بذهنية تقليدية لم يخلصها العلم منها، وبذا نتلمّس مدى اتساع الفجوة بين العلم والواقع المتخلف الذي ما زال يُرخي بظلاله على المرأة والمجتمع بسبب تلك الذهنية، وبحكم وضعها الاجتماعي كأم ومربية. 

العدد 1105 - 01/5/2024