رحلة تاريخية في المؤسسة الاستهلاكية

كما نرث العديد من العادات السيئة، فقد ورثت عن والدي عادة شراء مستلزمات البيت من الصالات التابعة للمؤسسات الاستهلاكية. والمفارقة أني كنت أعاني من إصرار أبي على ذلك، علماً أنه لم يكن لديه خيارات كثيرة وقتها، فحين نريد بيجامات مثلاً كان بكل بساطة يذهب الى هناك، ويشتري بضع أمتار من قماش مرقط أو منقط، وتقوم أمي بتفصيلها، لتصبح لدينا ثياب نوم تشبه تلك التي ترتديها عائلة (أم أحمد بلاليش)! أما في موسم المدارس فتأتي المصائب، هل تذكرون الزي المدرسي القديم؟ بالنسبة لما كان يدعى بدلة الفتوة، فقد كنا نشتري من المؤسسات قطعتين من القماش واحدة يقال لها بنطال وهي عبارة عن نفقين طويلين عريضين يجمعهما سحاب جانبي فقط، أما سبب هذا الكرم في الطول والعرض فليس عائداً لأسباب جمالية لها علاقة بموضة (الشارلستون) مثلاً أو بأزياء الممثلين في أفلام عبد الحليم وفريد الأطرش، بل لها علاقة بذوق المصمم العبقري الذي صنعها هكذا لتتسع لكل الأجسام، لأن القياس غير وارد في المؤسسات وكذلك التبديل، لذا كنا نعمد قبل لبسها الى التضييق والتقصير حسبما نريد، ثم نفاجأ في أول غسلة أنها قد أصبحت على الموضة تماماً، إذ يغدو طول البنطلون الى ما تحت الركبة بقليل، أما (الجاكيت) التي تكون أكمامها بداية مفرطة الطول مثل أكمام السحرة، فتتحول بقدرة قادر الى جاكيت نصف كم! وأذكر أن مدربات الفتوة – الله يذكرهن بالخير – كنّ يعاقبننا بسبب البنطلون القصير، معتقدات أننا نقلد موضة ( البرمودا). على كل أنهينا والحمد لله دراستنا بخير وسلامة، باستثناء بعض الندوب على أقدامنا تركتها أحذية المؤسسات بمثابة ذكرى أو علامة مسجلة لجيلنا المناضل، لكي لا ننسى ذاك البوط الأسود الخطير (بوط الفتوة)، والذي هو الابن الشرعي للبوط العسكري، إنما أقل راحة منه، إذ كنا نستغرق النصف الأول من العام الدراسي قبل أن يلين قلبه – عفواً جلده – ويصبح أقل إزعاجاً لنا!

دعكم من الملابس.. لكن الطعام أيضاً كان يحلو لوالدي شراؤه من هناك، فتراه كل شهر يدخل البيت حاملاً لنا الحبوب وعلب رب البندورة والحلاوة ومربى المشمش وبعض اللحم المثلج، ومعهم نرى زجاجة عرق صناعة محلية مطبوع عليها الشطر الثانيً من بيت شعر مشهور – مع بعض التحريف ليناسب الغرض – أما الشطر الأول فيقول: حبذا جبل الريان من جبل… وأترك لكم استنتاج الباقي لكي لا يظن أحد أني أروج لذاك المنتج. كانت أمي تنظر شزراً إلى تلك الزجاجة، فيحلف أبي أنهم في المؤسسة حمّلوه إياها إجبارياً فوق مشترياته! وتلك حالة معروفة وخطة مدروسة لبيع ما لا يمكن بيعه. على كل حال لو لم يكن لوالدي ثلثي الخاطر – كما يقال – لما كان اشترى من هناك أصلاً. ويبدو أن تلك الخطة قد لقيت نجاحاً كبيراً، فجرى التوسع بها، لذا صار عمال الشركات الذين يحصلون على ميزة (الكساء) ويذهبون لتبديل القسيمة بمنتجات من المؤسسة الاستهلاكية، يجدون أن العرض يرسو – ويا للمصادفة – على المؤسسة التي تتمتع بأكبر كمية من المواد الكاسدة أو منتهية الصلاحية! فتعثر هناك على علبة حلاوة متحجرة من عصر الفراعنة، وليس هذا فقط بل ستجد علب عصير مستوردة أيضاً من بلد الفراعنة، وكأن ليس عندنا فاكهة فائضة ونحتار كل سنة في تصريفها. وبإمكانك شراء رز كامل البروتين لا تضطر معه لطبخ اللحم لأنه مدعم بالسوس! المهم ألا تضيع القسيمة عليك حتى لو اضطررت الى شراء زيت قطن – ولا أعرف متى أصبح للقطن زيت – أو شاحن مضروب لا يعمل. وليست هنا المشكلة، لكن المشكلة أن تفاجأ بعد ذلك بأنك اشتريتها بسعر أعلى من سعر السوق!

بقي أن أقول أني سأبقى ملتزمة بعادتي السيئة، ليس بسبب الوراثة ولا بهدف جبر الخواطر، ولكن لأني ألاحظ مؤخراً أني كلما دخلت مؤسسة من تلك المؤسسات ألقى ترحيباً واستقبالا مدهشاً من موظفيها، ولا أدري ما السبب! ولكن بصراحة لم يصدف أن رأيت أحداً غيري يشتري من هناك، فهل هذا هو السبب برأيكم؟

العدد 1107 - 22/5/2024