حزام العفّة

تعددت الأحزمة وأنواعها، وبدأت عناوين قديمة – جديدة تطلّ علينا بألوان وأهداف تتغاير مع الواقع السوري طبعاً، وهي مرفوضة حتماً ولا تتصدر واجهات المحلات التجارية في أسواقنا.. وهذا النوع غريب علينا.. ولم يذكر أحد أنه شاهدها تباع في السوق السوداء إلى جانب الدولار، رغم انتشار (داعش والتكفيريين والمحاكم الشرعية ومجالس التأديب في بعض المناطق)، لكن هذا الحزام يمكن أن يكون بضاعة رائجة (ولا نعلم صحة ذلك)، في أسواق أفغانستان والسعودية وباكستان وغيرها ممن يدَّعي أنه يحافظ على (العفّة) و(يحترم المرأة ويقدّسها)، لكنه  في الوقت ذاته يمشي أمامها وهي مشدَّرة بغيمة سوداء..!

لقد عرف المواطن السوري أحزمة عدة منها: (الحزام الناسف – حزام الأمان بالسيارة – حزام الخصر – حزام البنطال) وقرأتُ مصادفة تحت عنوان (حزام العفّة) بعض المقالات فاضطررت للبحث عن تاريخ طويل له يمتد على مئات السنين وصفحات من المصائب والوضاعة والادّعاء الكاذب لحماية (الأنثى والتأمين عليها وصونها وحمايتها عندما يذهب الزوج إلى الحرب..؟!).

ظهر هذا الحزام في القرون الوسطى وله تاريخ طويل من التطور والزخرفة والموديلات حسب الوضع الاجتماعي والطبقي، واستخدم في أوقات الحرب لحماية النساء من الاغتصاب أو خيانة الزوجات أثناء ذهاب الرجال للحروب. وهو عبارة عن طوق من الجلد أو الحديد له قفل يلتف حول خصر المرأة ويحتفظ الزوج بمفتاحه. وفي مرحلة أخرى كان عبارة عن هيكل معدني في اتساع راحة اليد.. وهناك من يُرجع تاريخه إلى (أوديسة) هوميروس التي وصف فيها خيانة (أفروديت) لزوجها (هيفا يستوس) مع أخيه (آرس)، مما اضطر الزوج إلى صنع هذا الحزام إلاَّ أن أهل اليونان لم يستخدموه، بل كان أول من استخدمه أهل فلورنسا لذلك حمل اسماً آخر وهو (حزام فلورنسا). وقد زيَّنه التجار بالذهب والأحجار الكريمة.

لقد ترافق انتشار حزام العفة في العصور الوسطى مع سيطرة الإقطاع وسيادة نظام الفروسية. وكان النبلاء يخرجون في مبارزات ويغيبون عن أسرهم وزوجاتهم لشهور طويلة، فابتدعوا هذا الحزام لضمان عفة نسائهم وسلامة بيوتهم. وتمَّ اختراع هذا الشكل من الحماية في إيطاليا عام 1400. وهو يعبّر أصدق تعبير عن التخلّف ويقدّم صورة أو نموذجاً للعقلية الرجعية المتخلفة السوداء، ويعطينا فكرة عن نظرة العالم إلى المرأة في حقبة تاريخية معينة. وهناك من يؤرّخ لانتشار الحزام وأنه ذُكِر للمرة الأولى في الفترة الإغريقية، حيث كان يخصص للعبيد من النساء لكي لا يَحْملنَ ويعيقهنَّ عن العمل.. وورد ذكره في قصائد يعود تاريخها للقرن السابع الميلادي. وأول حزام عُثر عليه في قبر يعود للقرن السادس عشر مع هيكل عظمي لامرأة شابة. وفي القرن العشرين تمَّ اختراع حزام من الستانلس غير القابل للصدأ ويمكن ارتداؤه لفترة طويلة، كما اخترع حزام عفة للرجال.. وكان الحزام يباع بأسعار باهظة ويعدّ نوعاً من الترف، ولا يستطيع الحصول عليه إلاَّ أبناء المجتمع المخملي وأبناء البرجوازية والأغنياء من الطبقة الوسطى..!

و قد عُثر على جثث نساء – كما يؤكد باحثون عن هذا (التراث) – في القلاع التي دُمّرتْ في (بافاريا)، وقد دُفنَّ مع أحزمة العفّة. وأن هذه الجثث تعود لأرامل أولئك المحاربين الذين لم يعودوا من الحرب، وحُكم عليهنَّ بالحفاظ على العفّة والإخلاص لأزواجهنَّ الراحلين حتى وفاتهنَّ.

تطور حزام العفّة من صناعة قديمة إلى صناعة حديثة في عدد من الدول التي تعاني من ظاهرتي التحرّش والاغتصاب، وفي المقدمة تأتي الهند وأفغانستان وغيرهما. وابتكر عدد من الطلاب في الهند ملابس داخلية مضادة للاغتصاب ومزوّدة بنظام متطور يمكنه صعق المعتدين جنسياً، كما يمكن تنبيه الشرطة عند تنشيط الجهاز بإرسال تيار كهربائي يتسبب في شلل مؤقت للمهاجم.

وفي أوربا هناك شيء يشبه حزام العفة مزوّد برقم سري وابتكار آخر مضاد للاغتصاب، هو عبارة عن سروال قصير مزوّد بثلاثة أحزمة أحدهما يلف منطقة أسفل البطن والظهر والآخران يحيطان بأعلى الفخذين. وإذا استخدمت هذه الأحزمة بأشكالها الحديثة أو القديمة في عدد من البلدان التي تعتبر المرأة فيها سلعة رخيصة للتعبير عن حمايتها من التحرّش، فهذا يعبّر أصدق تعبير عن التردي الثقافي والأخلاقي والتراجع الحضاري والقيمي في عصر الثورة الثالثة..!

العدد 1105 - 01/5/2024