الجلاء… صفحات مشرقة من تاريخ المرأة السورية

تختزن ذاكرة الشعوب والأمم الأحداث الهامة في حياتها، وجلاء القوات الاستعمارية الفرنسية عن سورية في السابع عشر من نيسان عام 1946 لم يكن حدثاً وطنياً عادياً عابراً، بل كان يوماً مشهوداً يحمل دلالات وطنية عميقة.

فقد كان الجلاء أول وأعظم انتصار تحققه حركة التحرر الوطني العربية بعد الحرب العالمية الثانية، وفاتحة لانتصارات أخرى حققتها هذه الحركة في سائر البلدان العربية.

هذا الإنجاز التاريخي جاء نتيجة حتمية للنضال المتفاني السياسي والجماهيري السلمي والمسلح الذي خاضته فئات شعبنا كلها على امتداد ربع قرن، والذي جسّد إرادة شعب وقضية وطن عبّر فيها الشعب السوري عن عمق الانتماء لوطنه والإيمان بالحرية والعدالة. وكانت الوحدة الوطنية التي تجلت بكل معانيها عاملاً أساسياً في تحقيق النصر.. كما كان لتضامن الشعوب العربية الشقيقة والدعم والتأييد اللذين قدمتهما قوى السلام والحرية والتقدم في العالم بأسره فضل كبير في ذلك.

من معركة ميسلون الخالدة، إلى الثورت التي اندلعت في كل مساحات سورية، قدم الشهداء أمثولة رائعة في الدفاع عن الوطن والتصدي للمستعمرين، وقد شاركت المرأة السورية بحماس واندفاع كبيرين في خضم النضال الوطني المعادي للاستعمار، رغم الأخطار التي تعرضت لها من قتل وتشريد ونفي، ورغم  العادات والتقاليد القاسية التي كانت تحكمها.

فنازك العابد الفتاة الدمشقية الشجاعة التي تحدّت الاستبداد العثماني والانتداب الفرنسي، والملقبة بـ(جان دارك الشرق)، تيمناً بالبطلة الفرنسية التي قاومت الإنكليز، حاربت في طليعة الجيش العربي السوري ضد الفرنسيين، وخرجت إلى ميسلون مع وزير الحربية آنذاك الشهيد البطل يوسف العظمة، وقد منحتها حكومة الملك فيصل رتبة نقيب فخرية في الجيش العربي السوري، فكانت تتفقد الجنود بثيابها وكلها ثقة واعتداد وإيمان برسالتها.

كما رافقت زينب الغزاوي، من غوطة دمشق، القوات العربية إلى ميسلون متنكرة بثياب رجل، وأقسمت قبل ذهابها إلى المعركة أن تقاوم المستعمرين بكل طاقاتها، وكان لها شرف المشاركة في المعركة مع مناضلات أخر مثل فاطمة بنت كبكب، وأم سعيد عواد.

ومثيلات نازك وزينب كثيرات.. ففي مدينة دمشق برزت أسماء مناضلات لعبن دوراً هاماً في الثورة السورية، وأعمال المقاومة، منهن رشيدة زوجة المقاوم حسن الزيبق، التي امتطت الجواد وحملت السلاح، وساهمت في أكثر من معركة واعتقلت مرات عدة. وكذلك زوجة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، سارة مؤيد العظم، وزهيرة العابد، وسنية الأيوبي، وجيهان موصللي، وبلقيس كرد علي وغيرهن كثيرات.

إن العادات والتقاليد والقيود جميعها لم تستطع أن تحول دون تطلع المرأة السورية إلى حرية الوطن واستقلاله، وبقيت هذه الروح الحماسية قوية في كل حي من أحياء دمشق الشعبية، متسللة من أعماق الشاغور إلى جنبات الميدان، ومن سفوح الصالحية إلى منعطفات السمانة والقيمرية.. فتحت أزارهن حملن الرسائل وأخفين السلاح، ونقلن المؤن والذخيرة للثوار، واستشهدت كثيرات منهن مثل: سلمى بنت محمد ديب قرقورة، التي قتلت في معركة الصالحية، وهي تحمل العتاد للمقاومين، وكذلك نايفة خلف الجابر، وأم عبدو، من أهالي باب الجابية التي كانت تساعد الثوار وتنقل لهم السلاح والقنابل في سلال الفاكهة، وقد اشتركت في معركة قصر العظم عندما قام المفوض السامي الفرنسي بزيارته.

وفي معارك الغوطة والقلمون، ساعدت المرأة في نقل السلاح والذخيرة والمؤن للثوار، وساعدت الجرحى، ورصدت تحركات العدو، وأخفت الثوار عن أعين قوات الاحتلال الفرنسي، وكانت بينهن أمهات عاديات وفلاحات بسيطات وشابات يانعات، نذكر منهن زهرية شكيرة وأم سعيد عواد وفاطمة بنت كبكب وغيرهن كثيرات، ولن ينسى التاريخ الشيخة (حبابة) زوجة المجاهد صالح العلي، والدور البطولي الذي قامت به ورفيقاتها الثائرات في جبال العلويين، وكانت أبرزهن الشهيدة رندة الملقبة بالفارس المثلم، وهي من أشهر النساء اللواتي ناضلن في الثورة التي قادها المجاهد صالح العلي.

ومن حلب نذكر زكية هنانو التي وضعت كل ما تملكه من مال لدعم الثوار ونساء أخريات من آل الجابري والسباعي والكيالي.

أما نساء حماة فقد لعبن دوراً هاماً في المقاومة، وسقطت إحداهن شهيدة أثناء إحدى المظاهرات الصاخبة، كما قدمت حمص نماذج بطولية لنساء ثائرات مثيلات أم شعبي الدندشي وهي من تلكلخ، ولا يتسع المجال هنا للحديث عن بطولات رائعة قامت بها المرأة في حمص وحماة وهي كثيرة.

وفي جبل العرب الأشم، سجلت المرأة بطولات رائعة مع رجالات الثورة السورية وصانعي أمجادها الذين حملوا الوطن في قلوبهم، وفي أفعالهم، نذكر منهن: بستان شلغين، وترفة المحيثاوي، وامرأة من آل حمزة من منطقة رساس، ونساء كثيرات أخريات قدمن للثورة الكثير من التضحيات، وبلغ عدد الشهيدات في ثورة جبل العرب خمساً وتسعين شهيدة.

وفي معارك الجنوب في جباتا الخشب، استشهد العديد من النساء مثل فاطمة رحال، وخديجة بنت صالح مريود، ومريم بنت إبراهيم، ومريم بنت مخول الفحيلي، وغيرهن.

وتجدر الإشارة إلى أن النساء السوريات لجأن إلى وسائل مختلفة في النضال منها دعوة الرجال لمقاطعة الانتخابات التي جرت  عام 1938 لمنع المستعمرين من فرض جمعية تأسيسية تخدم مصالحهم وتتعارض مع الإرادة الوطنية، وكذلك في الإضراب الخمسيني، وفي جميع أدوار الصراع ضد الأجنبي، وقد ساهمت المرأة في النضال منذ بداية الاحتلال حتى الجلاء.

وفي عام 1945 قبيل الجلاء حين عم الإضراب المدن السورية وأقفلت الأسواق، وتوقف العمال عن العمل، اندفعت المرأة تجمع المال والطعام وتوزعه على أسر العمال، كما قامت بتنظيم المظاهرات النسائية ضد الاحتلال الفرنسي رغم الإرهاب الذي واجهته.

وبعيداً عن أرض المعركة، قامت المرأة بنشاط سياسي واجتماعي من خلال الجمعيات النسائية الأهلية التي أسستها ومنها (جمعية خريجات دار المعلمات)، فعملت على محو الأمية بين النساء، وروّجت للصناعات الوطنية، وأرسلت المعونات إلى الجنود في جبهات القتال، كما عملت المرأة من خلال الأدب على تمجيد الثورة وتخليدها وتخليد أبطالها المغمورين من أبناء شعبنا، فأضاءت جوانب جديدة من الثورة السورية.

تحية لذكرى المناضلات الباسلات صانعات الجلاء في يوم الجلاء.

العدد 1104 - 24/4/2024