بين زمنين!

.. والمتداول في حديث (أهل الفيسبوك) أنه حالما ينقطع أو يضعف ينتبهوا لبعضهم ويجهر بعضهم: لديه عائلة جميلة ولم يراها منذ زمن بعيد.. آه كم هم طيبون ورائعون، لننتبه ويا للمفارقة بأن من حولنا أُناس بتنا نتعرفهم أكثر ويغدو الكلام معهم يستحضر أزماناً غابرة من التشهي والحنين، فمثلاً أتاح لي ضعف النت أن أنتبه إلى أن ثمة كتباً كدستها مؤخراً على طاولتي دون أن أجد الوقت المناسب لقراءتها، لأعود مشتاقاً لتصفحها ولأغرق فيها قابضاً على صفحاتها ولحم سطورها ونبض بوحها،كأني بي أقبض على زمن قد غاب تماماً كنت أذهب فيه إلى المكتبة لأقتني ما أريد من كتب ستصبح وجبتي الشهية لاحقاً، وما حدث أن قررت الذهاب إلى مكتبة بعينها لأستعيد شيئاً من ذكرياتي وأسأل عن كتب قديمة علني أجدها -دونما أن أنتبه- إلى فارق الأسعار الجنوني الذي جعل الكتاب محض ترف هذه الأيام!

بحثت مجدداً عن المكتبة خلت أنني قد نسيت الشارع واختلف المكان، لكن المكتبة ذاتها قد اختفت تماماً، ليس في الأمر (واقعية سحرية) كما يتبدى، ولكن ما حصل بالفعل أن المكتبة اًستبدلت بمحل لألعاب التسلية على اختلافها وتنوعها، وبمعنى آخر  كان المحل الجديد كناية عن زمن استهلاك قد أتى بكامل فتنته وما عليك سوى أن تدخل فيه طواعية قبل أن تقسرك أذواق الناس التي اختلفت هي الأخرى، وتراجع فيها زمن الكتاب ليظل مجرد أيقونة.

 وأذكر أنه وعلى بعد أمتار قليلة من تلك المكتبة العتيدة ثمة كاتب كان يبيع كتبه بإعلان صريح: (هذا كتابي الخاص فاشتروه).

أتساءل بجدية فائقة ما جناية غبرييل ماركيز على الواقعية السحرية حينما انتبهنا إلى أن الواقع ليس هو تماماً فيما يخالطه شيء من السحر، لكنه المبرأ من الشغف، وأن الواقع في هذا السياق أصبح هجيناً بين أقل من أمس وأكثر من حاضر وأبعد من غد.

لم تكن الألعاب الظريفة التي شغلت ما كان يُعرف بمكتبة عريقة تقود خطا الناس إليها، ليدخلوا أزمنتهم بوساطة ما دونه أفذاذ من كتاب كبار شغلوا الناس لوقت طويل، سوى كناية إضافية على أن (قواعد اللعب) قد تغيرت وأصبح الاستسهال أشبه بمسلمة، أو فرضية رياضية منتهية وأصبحنا في زمن المفارقة فيه أننا لم نستطع أن نحايثه وأن نمتد فيه، وأن نجرؤ على استدعاء ما قبله خشية أن يقبض العقل علينا متلصصين بخيانة حاضرنا، وما بين زمنين يتصلان وينفصلان على نحو غريب ظلت الكتابة بوصفها جسراً  إلى آخر كما تنبأ بذلك يوماً مبدع راحل كان اسمه -غسان كنفاني- .

واستئنافاً لحديث معارك النقد الأدبي، فإن ما يشهده العالم الافتراضي من حروب تجري في الأثير -أشبه بزمن الحروب الباردة- فإن معاركه الباهتة بفعل الذاكرة الهشة للعالم الافتراضي لا تُرسي حقيقة ولا تحفل بمأثرة بعينها.

ماذا يحدث حقاً لو قررت أن تأخذ إجازة قصيرة من سجالات عالم لا صلة معه سوى أن تفترض وأن تترك لاوعيك هو من يقرر، ماذا يحدث لو نزلت على أرض راسخة ليكون سجالك كلمة بكلمة يتدفق في شرايينها الدم، ماذا يحدث لو أنك استعدت ذاكرة بشر يهيمون في الأرض كانوا وبلغة -فرانز فانون- المعذبون في الأرض بالتماسِ مع أحلامهم وأوجاعهم القصوى، بدل أن تفترضها في العالم الأزرق وكأنها حكايات متخيلة؟!

كل ذلك لأجل دقائق يعاندنا فيها الوقت ليأخذنا إلى ما بعده، وننتبه أكثر إلى أن ما نسيناه يكاد يكون أشبه بتاريخ منسي علّ استعادته تعيدُنا إلينا لتتنفسُنا الصحائف والأوراق والكلمات والأشياء… حقاً إنها الحياة في هشاشتها قوة أخرى، وفي قوتها هشاشة سارية!.

 

هامش: كان اسم المكتبة (اليقظة العربية) وللتنويه فقط.

العدد 1107 - 22/5/2024