بعد محاولته الانتحار قبل أسبوعين.. رحيل المفكر اليساري التونسي العفيف الأخضر

(بيدي لا بيد عمرو) كلمات اختارها المفكر التونسي اليساري المثير للجدل العفيف الأخضر (79 عاماً) ليودع بها العالم، بعد أن سقط في شراك مرض مستعصٍ أفقده الأمل في المقاومة.

هذه المرة تأكد خبر وفاة صاحب  (التنظيم الحديث)، على سرير في مستشفى تونسي متأثراً بمحاولة انتحار أراد بها الخلاص من آلام البدن، وآلام الوطن. أنقذ الأخضر قبل نحو أسبوعين، وكانت وسائل إعلامية قد تناقلت خبر انتحاره، ثم تبين أنه انتحار فاشل. أقدم عليه بعد وصوله إلى مرحلة الشلل التام عن الحركة، ليضع حداً لحياته  (الصاخبة).

يذكر المقربون منه أنه كتب في 21 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، نصاً بعنوان  (نداء إلى انتهاك الشعائر الغبيّة)، جاء فيه:  (طريقة الانتحار تكشف عن مدى قسوتنا أو رأفتنا بأجسادنا. وسائل الانتحار المتوفِّرة في الفضاء العربي الإسلامي: تناول سم إبادة الفئران، أو مبيدات الحشرات، ماء الكلور، الشنق، الاحتراق بالنار، (لذلك أقترح هذه الطريقة الحضارية التي تشبه  (قانون الانتحار بمساعدة طبية) الذي يناقشه البرلمان الفرنسي، مع  (قانون الموت الرحيم). من شاء أن يخرج من هذا العالم الذي جاء إليه بمصادفة بيولوجية، بقرار فردي مدروس، فليتناول أكثر من 8 حبوب منومة، ودواءً مضاداً للقيء مع كحول. وسينام نومة الأبد).

عرف العفيف الأخضر في الأوساط الفكرية والثقافية العربية والغربية بالمفكر المثير للجدل، منذ انقلابه من أقصى اليسار إلى الليبرالية. وهو أول من ترجم  (البيان الشيوعي) في أول نسخة غير مزورة، كما كتب على غلاف ترجمته. ومؤسس المجالس الثورية، وصديق الكثير من اليساريين العرب. كما تشهد له مشاركته للفلسطينيين نضالهم منذ نهاية الستينيات في الأردن، ثم في لبنان السبعينيات. ويقال إنه كان من أكثر المتحمسين لفكرة  (التنظيمات الشيوعية) والتنظير لها وترجمة معظم مايتعلق بذلك، كان يكتب ويترجم في السبعينيات ومطابع بيروت تلهث خلفه، والقاهرة توزع وتقرأ عندما كانت التنظيمات السرية هي الطريق  (آنذاك) للثورة.

 

في رثاء (أحد عمالقة اليسار

في المنطقة العربية)..

الشاعر والصحفي اللبناني عباس بيضون كان من أوائل من رثى الأخضر في جريدة (السفير)  اللبنانية – يوم شاع خبر وفاته الشهر الماضي، بمقالة بعنوان  (العفيف الأخضر.. شاعر التمرد)، سلط فيها الضوء على مناقب  (الراحل)، الذي وصفه ب(رسولنا إلى العالم) و(حالمنا الكبير) و(محارب كوني)، مضيفاً:  (كنا نرى هذا الرجل الضامر الأعمق المنبوش الهيئة، ونعرف فوراً أنه العفيف الأخضر، وأن هذه مسوح المتمرد وشارته. كان الثائر آنذاك، يسيح في الدنيا العربية وفي الشرق والغرب، يزرع الثورة ويرعاها كما يرى الواحد ابنته. أجّر جسده وعقله وروحه للتمرد والثورة من قبل، حتى إنه عدا كتاباته وكتبه وغضبه وسجالاته الصاخبة لم يكد يملك حياة خاصة، بل لم يكد يملك قميصاً ورغيفاً. كان يكتب ويقرأ ويساجل فحسب، فهنا في عقله وفي دماغه كان معمل الثورة، لم يهتم بأنه غدا من كبار المثقفين وساجل الصغير والكبير، والأرجح أن فكره كان يغلي بغضبه فلم يلزم أحداً ولم يؤمن لأحد وإنما كان يؤرجح الأفكار ويلقيها يميناً وشمالاً، يبذرها في كل مكان. فقد عاش العفيف الأخضر بلا وطن تقريباً، فهذا الرجل البسيط حمل على عاتقه هماً كونياً وعاش كإنسان كوني، ولم يكن رحيله الفاجع سوى انفجار صاخب لهذه الكونية). وفي  (السفير) أيضاً رثاه – يوم ذاك – الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر، بمقالة بعنوان  (موت صاخب لحياة مفعمة)، جاء فيها:  (في طفولته القاسية فكّر في الموت مرّة للخلاص من المهانة الاجتماعية والفقر. وعندما وقع انقلاب هواري بومدين في سنة 1965 ضد صديقه أحمد بن بلاّ، واضطر إلى اللجوء إلى المنفى الألماني، فكّر ثانية في الانتحار، لكن فيتنام أنقذته من أفكاره وجعلته ينعطف مباشرة إلى العمل الثوري، ليلتحق في ما بعد بالثورة الفلسطينية في الأردن. وفي سبعينيات القرن المنصرم كان يردد أمامنا في بيروت أنه سينتحر خلال عشر سنوات إذا لم تنتصر الاشتراكية في العالم العربي… لم تنتصر الاشتراكية ولم ينتحر العفيف الأخضر. والاثنان، أي الاشتراكية والانتحار، هُزما مؤقتاً).

قضى العفيف الأخضر حياته كاتباً وباحثاً مواجهاً، مدافعاً عن علمانيته، ومقاتلاً صلباً ضد  (الإسلام السياسي)، انطلاقاً من ضرورة الإصلاح الديني وتقديم الإسلام الصحيح، ولكن على أرضية مركزية الفرد والعقل والعلمانية وفصل الدين عن الدولة، ويحدث ذلك عبر التعليم والإعلام، وعبر الدراسات المقارنة بين الأديان، واعتماد المقارنة منهجية لتدريس الدين الإسلامي وكل دين، كي يتخلص العقل الديني من وهم الحقائق الخالدة في ديانته ويبدأ الاندماج بالعالم ويعترف بتعددية الأديان والحضارات والانفتاح عليها.

العفيف الأخضر في سطور..

ولد العفيف الأخضر في عائلة فلاحين فقراء في مدينة مكثر  (شمال شرق تونس)، سنة 1934. والتحق بجامع  (الزيتونة)،  (أزهر تونس)، ثم بكلية الحقوق. ومارس مهنة المحاماة بين 1957 و،1961 ثم تخلّى عن هذه المهنة وسافر إلى باريس في ،1961 قبل أن يلتحق، مع يساريين آخرين، بنظام الرئيس أحمد بن بلا، غداة استقلال الجزائر. وانتقل إلى الأردن في العام ،1965 متنقلاً بين عمّان وبيروت حيث طبع أهم كتبه التي كان محورها  (نقد الفكر الإسلامي التقليدي).

غادر العفيف الأخضر بيروت محزوناً بعد اندلاع الحرب الأهلية، وكان يعيش في باريس منذ 1979.

من كتبه:  (التنظيم الحديث)، دار الطليعة، 1972. و(الموقف من الدين)، دار الطليعة،

 1973. وله المئات من المقالات، وفي مقالاته الأخيرة بعد ثورات الربيع العربي، حذر من سقوط الدولة المدنية وتنامي ثقافة  (اللادولة).

العدد 1105 - 01/5/2024