الرواية -نشأةً وبنية- معقل للمقاومة

يذهب بعض النقاد إلى أن الرواية من أكثر الأجناس الأدبية قدرة على بث روح المقاومة، وللتدليل على ذلك لا مهرب لنا من تحديد معنى المقاومة لسعة وتنوع الفضاء الدلالي للمفهوم، فماذا نقصد تحديداً بالمقاومة؟

هل هي مقاومة المحتلين والنضال من أجل تحرير الوطن منهم؟ أم هي مكافحة الإرهاب والتخلص من رجسه؟ أو هي مواجهة الإمبريالية العالمية، ومحاولاتها تنميط الشعوب وفرض هيمنتها الأبدية عليها؟ أو أن الرواية فن يقاوم التخلف والجهل، ويعمل على نشر العلم وتحرير الناس من الأوهام، والأخذ بأيديهم إلى طرق النور والمعرفة العلمية للكون والطبيعة والمجتمع والإنسان.

للأدب عامة وظائف عدة، مستمدة من طبيعة كل جنس أدبي، فالرواية كنوع أدبي منذ أن انفصلت عن الملحمة وبدأت تتخلق كشكل أدبي مستقل له خصائص وقواعد تميزه حافظت على طبيعتها وجيناتها الموروثة من الملحمة، التي يعترف الجميع بأنها فن المقاومة بامتياز.

انفصال الرواية وخروجها من رحم الملحمة هو فعل مقاومة، لأن كل جديد هو مقاومة للقديم، والمعركة بينهما لا تعرف مظهراً واحداً، وهي معركة دائمة لا نهاية لها. تأسيساً على ذلك، فإن تكون الرواية كشكل أدبي مستقل عبر تاريخها المديد وتحررها من أساليب الملحمة، واتخاذها قواعد وأنظمة تخصها، وتؤصلها كنوع أدبي هو فعل مقاومة.

استعراض بسيط لتاريخ الرواية العالمية، يبين بجلاء أن الرواية كجنس مستقل، اتسع لكل أنواع المقاومة، من مقاومة الظلم والتسلط، إلى التحرر من الاضطهاد ومواجهة المحتلين، حتى مواجهة الذات مع المجتمع على اختلاف تشكيلاته الاقتصادية والاجتماعية. وحتى الرواية النفسية المغرقة في ذاتيتها هي شكل من أشكال المقاومة، على طريق بناء إنسان سوي، يتكامل ولا تتصارع أبعاضه متحولة إلى مزق.

ومن العبث أن نذكر أمثلة من الرواية العالمية، التي تكاد لا تحصى، فبدءاً من دون كيشوط ثرفانتس، إلى آخر منجز روائي في العالم، لا بد أن نجد في مضامينها ومحتوياتها نماذج مختلفة ومتباينة للمقاومة.

الرواية تعيد كتابة التاريخ، وفق منظور الكاتب ورؤيته، وهي كما يقال، تاريخ من لا تاريخ لهم، تنصف المضطهدين والمظلومين، وتدوّن هزائمهم وتعزز انتصاراتهم، وتكشف الواقع وما خفي من تناقضاته، ويحاول بعضها، أن يقدم حلولاً لمشاكل الإنسان الوجودية الكبرى، كمسألة الحرية والاغتراب والاستلاب، وتصحير الإنسان، بجعله آلة، وبالتالي إحساسه بالعبث ولاجدوى التغيير.

لو أخذنا مثالاً، من الرواية العالمية، أرنست همنغواي في أعماله الروائية (لمن تقرع الأجراس، وداعاً أيها السلاح، الشيخ والبحر) لوجدنا أشكالاً متنوعة من المقاومة، وقد تجلت بوضوح ساطع في صرخة الشيخ سنتياغو في رواية (الشيخ والبحر): (قد يموت الإنسان ولكنه لا يهزم).

أما إذا ما استعرضنا تاريخ الرواية العربية، نشأة وتكوناً وبنية، من (غابة الحق) لفرنسيس مرّاش إلى آخر ما أنتج، كشكل فني جديد قد تحرر من طرائق السرد الموروثة وتكوَّن وفق أنظمة الرواية العالمية ونماذجها ومقاساتها، وعمل على تحرير اللغة السردية مما علق بها، من أنماط الكتابة الحكائية القديمة، كالسِّيَرِ وحكايا الشطار، وألف ليلة وليلة. هذه العملية بحد ذاتها، فعل مقاومة. فإذا أضفنا الحامل الاجتماعي للرواية وهو الطبقة الوسطى، بطموحاتها، وأحلامها في التغيير، نجد أن الرواية العربية قد رافقت تاريخ المقاومة في المنطقة، منذ فجر تشكلها كبنية فنية متمايزة عن الأجناس الأدبية الأخرى، لأن صدرها قد اتسع لكل أنواع وأشكال المواجهات التاريخية والاجتماعية والتحررية والاقتصادية وحتى النفسية.

إن قراءة بسيطة لتاريخ تشكل الرواية العربية تفضي إلى حالة من التوازي أو التطابق بين سيرورة التاريخ وصيرورة الرواية العربية المتزامنة مع تطور الحياة العربية بكل تعقيداتها ومشكلاتها ومواجهاتها، بدءاً من الماضي السحيق إلى الحاضر المعيش. ولنا في رواية (الشراع والعاصفة) للروائي حنا مينه مثال بيِّن على قدرة الرواية على احتواء مفاهيم المقاومة المختلفة. ففي شخصية الطروسي نجد فعلاً مركباً للمقاومة: إذ قاوم الاستعمار الفرنسي بنقل السلاح للثوار، وقاوم الإقطاع ممثلاً بالصراع على المرفأ بين الحمَّالين ومستغليهم، وفي الميناء بين مُلاّك المواعين والعاملين عندهم. وتحدي الطروسي لهم وانحيازه إلى العمال والمظلومين.

شخصية الطروسي فريدة في نوعها في تاريخ الرواية العربية من وجهة نظر المقاومة، فإضافة إلى مواجهة الاستعمار والإقطاع، ثمة مقاومة أخرى وصراع نفسي عاشه الطروسي أثناء إقامته المؤقتة على البر، وهو البحار الشجاع الذي لا يستطيع العيش إلا فوق سطح الأمواج، وفي قلب اللجة، عاش الطروسي غربته على البر، بعد غرق مركبه، لكنه استطاع أن يعود ريّساً فوق صهوة مركب، وبذلك حسم خياراً مراً وودع البر، في الوقت الذي قرر فيه أن يعلن زواجه الشرعي من (أم حسن) التي قدَّمت له كل ما تملك لكي يعود إلى البحر ريساً، وبذلك ساهمت في تحقيق حلمه وإنجاز فعله البطولي، بهذه الحمولة من المواجهات المركبة والمتداخلة وبما تحمله الشخصية من غنى إنساني انتقلت شخصية الطروسي من المحلية إلى العالمية، لتحجز مكانها اللائق بها في تاريخ الأدب العالمي.

في شخصية الطروسي، طبقات متداخلة، ومتقاطعة، من أفعال المقاومة: وطني، اجتماعي، سياسي، نفسي، اتسعت لها الرواية، كبنية فنية وعمل أدبي.

الرواية بوصفها حاضنة للتعدد والاختلاف، وبصفتها جنساً أدبياً حوارياً ديمقراطي التكوين: حوار، تعدد شخصيات، اختلاف مستويات اللغة، تنوع الضمائر السردية، كل ذلك منحها دورها وأهميتها، إلى الحد الذي ذهب بعضهم إلى تسميتها ديوان العالم في هذا الزمان، لأنها تقرأ واقعاً متحركاً وتدون تاريخاً تفاعلياً وأزمنة مركبة، وترسم شخصيات مختلفة، وهي من أقدر الأجناس الأدبية على تجسيد المغايرة والاختلاف واستيعاب منجزات الأنواع الأدبية والفنية الأخرى، كالشعر والمسرح والسينما والفنون التشكيلية، علاوة على قدرتها على تمثل وهضم المنجزات العلمية والمعرفية التي أنتجتها البشرية جمعاء.

العدد 1104 - 24/4/2024