شاتوبريان.. رائد الأدب الوصفي للطبيعة

بدأت الرومانسية وسطعت في إنكلترا وألمانيا قبل ظهورها في فرنسا بزمن غير قصير، ويضع مؤرخو الأدب غوتة مؤلف (آلام فرتر) وشاتوبريان في طلائع الرومانسيين الذين تزعموا تلك المدرسة فيما بعد، كما يعتبر رفاييل آخر أبطال الروايات الرومانسية للامارتين، وقد احتفظت تلك الروايات الحية الخالدة، إذا احتوت على أبرز خصائص الشباب الرومانسي ومميزاته، ومحامده، ولقد فتنت هذه الروايات الأدبية عدداً وافراً من الباحثين، كما أغرت كثيراً من الصحف الراقية والمجلات الرصينة، فجعلت لها على صفحاتها أمكنة واسعة.

وقد كتب شاتوبريان يصف مجيئه إلى العالم:

(كنت تقريباً ميتاً عندما رأت عيناي النور، وكان زئير الأمواج التي أثارتها العاصفة ينبئ بحلول الخريف ويمنع من سماع صراخي، وكثيراً ما رددوا على مسامعي هذه التفاصيل، فعلقت في ذاكرتي، ولم تقو الأيام على محو ذكراها الحزينة. فأرى تلك الصخرة التي ولدت عليها، والغرفة التي حكمت علي  فيها أمي بالحياة، والعاصفة التي كان ضجيجها يهدهد رقادي، والأب الفقير الذي أعطاني اسماً حملته….).

 ولد فرانسوا أوغيست ده شاتوبريان في 4 أيلول 1768 في سان مالو، فعهد به إلى خادمة عجوز أن تعتني بتربيته. أمضى سني حياته الأولى يلهو ويلعب على الشاطئ، ثم أرسل إلى مدرسة (ول) ومنها إلى مدرسة (ران)، حيث برز بذكائه المتوقد وعرف بنزعته الاستقلالية، وأظهر تفوقاً ملموساً في الرياضيات. تطوعّ في الجيش الملكي وأصبح ملازماً في فرساي وهو في السادسة عشرة من عمره. افتتن في بداية حياته الباريسية بأفكار الثورة الفرنسية (1789)، لكن الإرهاب الذي تمخض عنها أبعده عنها، ودفعه حب المغامرة إلى السفر إلى أمريكا التي بقي فيها عدّة أشهر. ثم التحق بالجيش الملكي المقاوم للثورة في ألمانيا، حيث جُرح ومرض، فسافر إلى لندن ونشر آنذاك (مقال في الثورات)، ثم عاد إلى فرنسا عام 1800وقد تخلى عن ميولة الثورية، وعاد إلى ممارسة الشعائر الدينية، ووضع عدّة كتب يمتدح فيها الأخلاقيات المسيحية والتعاليم الكنسية، منها (آتالا) و(عبقرية المسيحية). ثم قام برحلة إلى بلاد الشرق:اليونان وتركيا وفلسطين استغرقت عامين (1806-1807) كتب في أثنائها ملحمة دينية نثرية نشرها عام 1809 بعنوان (الشهداء)، ثم انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية. عاش شاتوبريان حياته متقلباً بين الأدب والسياسة، فعمل في عدّة مناصب سفيراً في روما، ووزير دولة، ووزير خارجية وعضواً في مجلس الأعيان. وأسس صحيفة (المحافظ) عام 1818 وعمل على مؤلفه الأهم (مذكرات ماوراء القبر) الذي استغرق إنجازه ثلاثين عاماً. نلمس في المرحلة الأولى من كتاباته، كتابات القلق وعدم اليقين، وقد كتبت في مرحلة الشباب وأهمها كما ذكرنا (مقال في الثورات) وقدّم قراءة للثورات القديمة والحديثة، اعتمد فيه على منهجين متناقضين لاثنين من كبار فلاسفة القرن الثامن عشر: روسو ومنهجه في القراءة الموضوعية للتاريخ المعيش، ومونتسكيو ومنهجه في المقارنة بين المجتمعات وتطورها التاريخي. ونجده يتفق مع الأول حول الطبيعة البشرية والآراء العقلانية المناوئة للمسيحية، ويرفض فكرة التطور الإنساني التي نادى بها مونتسكيو، ونلمس في كتابات المرحلة الثانية كتابات العودة إلى الإيمان، وكتبها بين الثلاثين والأربعين من عمره، وأهمها كتاب (عبقرية المسيحية) وروايتا (أتالا) و(رُونيه). ويعتمد الكاتب تقنية الرواية داخل الرواية، الأولى يحكيها الشاب الفرنسي رُونيه الذي ينزل ضيفاً على قبيلة في أمريكا الشمالية عند هنود الناتشيز، ذكريات شباب الحكيم الهندي شاكتاس الذي أنقذته الهندية المسيحية آتالا من الأسر، إثر حرب بين قبيلتيهما، وفي أثناء هربهما يلتقيان راهباً، يدعو شاكتاس إلى الدين المسيحي ويحضّه على الزواج من محررته، لكن آتالا التي كرمتها أمها لخدمة الكنيسة تنتحر، خشية أن يثنيها الحب عن طريق الإيمان.

ويكفي (آتالا) أنها كتبت بقلم شاعر كبير وفنان قدير، ومما يلفت فيها تسلسل حوادثها وما تتصف به من دقة في الوصف تبرز الأشياء وتجسمها، والصور العديدة التي تخلب اللب والانسجام والتوافق في الألفاظ. قال شاتوبريان في (آتالا)، إن العصر القديم يرفض آتالا ولكن العصر الحديث يتقبلها ويعجب بها.

وفي الرواية الثانية (رُونيه) التي تعد تكملة لرواية (آتالا) يسرد الشاب الفرنسي ذكرياته للعجوز الهندي، ليبين له سبب كآبته الدائمة، فيحكي عن معاناته من العزلة والوحدة، وعن سأمه وعن الحب الممنوع الذي يدفع بأخته إلى الدير والترهب. وضع شاتوبريان في هاتين الروايتين دفاعه عن العقيدة المسيحية في قالب أدبي متخيل.

ويكاد النقاد يجمعون على أن هذه الرواية تعتبر نموذجاً قيماً لإنتاج الرومانسين، ويجد القارئ الأخيلة المحلقة في سماء (اللانهاية) والأحلام المتغلغلة في ليل الأبدية، وفيها يلتقي بالعواطف الحادة والأحاسيس الملتهبة والرغبات الملحة، والأهوال العنيفة، وفيها يعرف القارئ آلام الحياة وشقاء العيش، ويذوق مرارة الصعوبات. وهي لوحة أمينة لذلك العصر الثائر المضطرب المفعم بالقلق، المليء بالضجر. وتردد في الأوساط الأدبية أن رُونيه بطل هذه الرواية هو شاتوبريان نفسه، وأن رُونيه وهو شاب فرنسي قد ارتحل إلى أمريكا ليدفن نفسه في عزلتها، وانضم إلى قبيلة هندية في تلك البلاد وعاش فيها عيشة بدائية تتفق مع تلك البيئة. وتتلخص قصة هذا البطل في أنه ولد ونشأ في قصر عتيق منعزل وسط غابات مترامية الأطراف، وفي هذا القصر قضى طفولته ومبدأشبابه إلى جانب شقيقته (إيميلي) التي ألف بينها وبينه اتفاق الذوق وتشابه المزاج، فشبا معاً وجعلا يتقاسمان لذة النزهات وحب الطبيعة ، بيد أن هذا الهناء البريء لم يلبث أن ذوت زهوره، فقد تويى والدهما، وسرعان ما انتقلت ملكية القصر وما فيه إلى أخيهما الأكبر، الذي أوكل أمر هذين الناشئين إلى بعض الأقارب يقومون على تربيتهما، وقد قلب هذا الحادث كيانهما رأساً على عقب وصدمهما صدمة عنيفة قاسية جعلتهما يفيقان فجأة من أحلامها اللذيذة، ويهويان فجأة إلى أرض الحياة العملية المليئة بالألم والشر والمفعمة بالبؤس والتعاسة، وعلى أثر ذلك يقذفان بنفسيهما في حظيرة الرهبانية ليقطعا كل روابطهما بهذا العالم الأسود الشرير، ويخلصا لمالك الملك المشفق الرحيم. ولكن الفتى لا يستطيع صبراً ويشتاق قلبه المحزون إلى مخاطر الأسفار والمغامرات، فيقذف بنفسه إلى العالم الطويل العريض، فيزور الآثار القديمة في مختلف الأصقاع، ويستمتع بالمناظر الجميلة في مختلف البلاد، لكنه لا يحس في قرارة نفسه بالسعادة، والسر في غياب السعادة من حياته هو أن هذه الرحلة الطويلة قد كشفت له كثيراً من غوامض الوجود، حتى صار لا يرى (إلا الحياة) على حقيقتها، وأننا لسنا إلا شيئاً ضئيلاً. ونجده يسأل قائلاً: (إلى أين ذهبت تلك الشخصيات العظمى التي طالما أحدثت ذلك الضجيج المدوي في أنحاء المعمورة؟ وكأنه يجيب نفسه على هذا التساؤل فيقول: (إن الزمان قد خطا خطوة فتجدد وجه العالم)! وجسّد شاتوبريان في رُونيه كل آلام العصر المكون من عناصر شديدة التباين مليئة بالمفارقات: فمن انهيار في الثقة واليقين، إلى موت عنيف إلى خيبة أمل أخلاقية أو علمية، إلى أحلام إنسانية سامية. القلق والضجر والحزن والانقياض أصابت كل أهل ذاك الجيل، استطاعت ريشة شاتوبريان أن تصورها في رونيه، فأبدعت في التصوير، فالصور النثرية أو الشعرية عند هذا الكاتب ليست كلها أحلاماً، وإنما هي تحتوي من الحقائق على مقدار لا يقل عما تشتمل عليه من أخيلة، وإلا لما أبدع في التصوير إلى الحد الذي يبهر العقول ويسحر الألباب، وهو في هذا يقول: (إنما في الغابات قد تغنيت بالغابات، وفوق ظهور السفن قد صورت المحيط، وفي المعسكرات قد تحدثت عن الأسلحة، وفي المنفى قد عرفت النفي، وفي البلاطات والقصور الملكية والجمعيات الرسمية درست الأمراء والسياسة والقوانين)، ويعود الفضل إلى شاتوبريان بإعداد جيل من الكتاب، والمؤرخين، ورجال الدولة، أولم يقل فيكتور هوغو (سأكون شاتوبريان أو لا شيء)؟! لقد وصف شاتوبريان الطبيعة وصفاً دقيقاً، صور عظمة المحيط في كل الأوقات، ثم النهار كما في الليل، ثم تصدى لوصف الغابات الأمريكية، وشواطئ الميسسبي، ثم انتقل إلى روما، إلى نابولي وفلسطين، وإسبانيا، وكل لوحة من لوحاته، مازالت تسيطر على العقول وتسلب الألباب بطابعها الخاص، بعد قرن كامل ازدهر فيه الأدب الوصفي). إن الدقة في الوضوح وتمازج الألوان تميزه عن غيره، فشاتوبريان مزج الطبيعة في كيانه وذكرياته. وجدّد شاتوبريان النقد الأدبي، وقد علمنا أن النقد الصحيح يتوقف على معرفتنا المناسبات التي وضع فيها الكتاب ومدنية الشعب ومعرفة عاداته وكل ما يتعلق به.

جاء شاتوبريان بعد كبار الكتاب مثل (باسكال)، (بوسيه)، (فولتير) ولكنه لم يقلد أحداً، وعلينا أن نميز في فنه قوة التصوير، وأن نرى فيه مبدع اللوحات التي لا مثيل لها، إذ لا يوجد من يضاهي أسلوبه في القرن التاسع عشر. ونقرأ في المرحلة الأخيرة كتابات العزلة والتفكير في العالم التي كتبها في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، وأهمها كتاب (مذكرات ماوراء القبر)، وأراد شاتوبريان أن يجعل من هذا الكتاب شهادة على عالم يتحول من شكل جديد منفتح على المجهول، وقد اعتمد في صياغته أسلوباً وسطاً بين المذكرات والاعترافات، مما أعطى الكتاب نفحة شعرية قوية، ونجد من حين إلى آخر شاتوبريان يستطرد في هذه المؤلفات من السرد التاريخي ليرسم الشخصيات الملهمة التي أثرت في حياته، وخاصة عشيقاته، لينتهي بمدح المجتمع الصناعي ونظامه الديمقراطي.

العدد 1105 - 01/5/2024