خمس سنوات حرب … سورية تخسر أكثر من 4,5 مليارات دولار شهرياً

 أنهت الحرب في سورية، عامها الخامس، بتواصل القتل والدمار، وتزايد أعداد المهاجرين داخلياً الذين وصلوا إلى سبعة ملايين، واللاجئين رغماً عنهم إلى دول أخرى إلى أكثر من 4 ملايين، فضلاً عن تنامي الخسائر الاقتصادية بسرعة هائلة،إذ تخطت  4,5 مليارات دولار شهرياً. إلا أن الملف الأسوأ والأكثر خطورة في استمرار هذه الحرب الطاحنة هو الخسارة البشرية، التي تتجاهلها الأطراف المتحاربة، ولا تنظر إليها بشفقة أو إنسانية. إضافة إلى جبل الجليد العائم، المتعلق بأصحاب الإصابات والعجز، هذا الملف الغائب عن التناول، سيكون الأكثر قسوة في الأيام والسنوات التي تلي صمت أصوات المدافع والرصاص والآلة العسكرية.

وفي دراسة حديثة أجراها مركز فرونتيير إيكونوميكس الأسترالي للاستشارات، ومؤسسة ورلد فيجن الخيرية، قدرت الخسائر الاقتصادية للحرب في سورية ب 689 مليار دولار، إذا توقف القتال هذا العام، وأنها قد تصل إلى 1,3 تريليون دولار إذا استمرت الحرب حتى عام 2020. وذكرت الدراسة التي نشرت مؤخراً أن هذه الخسائر أكبر 140 مرة من تقديرات الأمم المتحدة والدول المانحة، وأشارت إلى أن نصيب الفرد السوري من الناتج المحلي الإجمالي انخفض بنسبة 45% بسبب الحرب، فيما خسر اقتصاد سورية حتى الآن 275 مليار دولار،

وبحسب الدراسة، فإن هذه الحرب  تسبب خسائر  في النمو قدرها 4,5 مليارات دولار شهرياً. في حين يقدر المركز السوري لبحوث السياسات في تقرير أصدره الشهر الماضي الخسائر ب 255 مليار دولار، مع انخفاض  الصادرات  بنسبة 20؟ وتراجع الواردات 29% العام الماضي. هذه الأرقام لا تشكل الحقيقة كاملة، وإنما تعكس الخسائر الاقتصادية فقط، للحرب التي قطعت 1825 يوماً، ومازالت مفتوحة الأفق. وجعلت من سورية التي كان لها ترتيب مهم في الانتاج الزراعي على المستوى العالمي والعربي، فهي كانت من ضمن العشرة الأوائل في إنتاج الزيتون والقطن والقمح والكمون واللوز والتين والتفاح والكرز، جعلت من هذا البلد الغني، بلا موارد، ومكسور الجناحين التنمويين، أي الزراعة والصناعة.

دمرت الحرب مقدرات سورية الاقتصادية، جعلت من المصانع أثراً بعد عين، عقب محاولات حثيثة لتطوير الصناعة، ورفع نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الاجمالي، ليتخطى 17%. إلا أن الفشل الذي تعرضت له محاولات نقل الصناعة من الحماية الى التنافسية، اصطدمت بالتخلف التكنولوجي الهائل، وأتى التخلف الجديد المغلف بأوراق وهمية، مدمراً المصانع، ومحطماً المنشآت. إذ ولى زمن الخصخصة، والفساد المنظم في المؤسسات العامة، والحماية غير الموضوعية للمنتج الوطني. والآن، قُتلت هذه الموضوعات، وحل مكانها، أنقاض المنشآت.

لم تعد مهمة تلك المقولات الداعية لقطع اليد التي تمتد إلى القطاع العام، إذ لم يبقَ منشآت حيوية، تحتاج إلى الحماية والدفاع عنها. في الحقيقة المريرة، ما دُفع من تعب وعرق، و أُزهق من نقاشات فكرية ثرية، للمحافظة على صناعة البلاد، أتت السكاكين ممزقةً الحوارات، والنيران الملتهبة محرقةً الوثائق والمواقف، والاعداء مدمّرين المنشآت، عقب أن سرق الآلات لصوص مختلفون.  لم تدمر الحرب الجناح التنموي الثاني للاقتصاد الوطني، إنما عطبت كل محاولات التفكير الجادة لإعادة إقلاع هذا الجناح، أو مجرد محاولة التفكير بترميمه وبنائه من جديد. ماذا تعني تقديرات وزير الصناعة الخلبية بأن خسائر القطاع العام الصناعي بلغت نصف تريليون ليرة؟ وكان رئيس الحكومة تحدث في أيلول الماضي عن خسائر كلية بلغت 10 تريليونات ليرة، بالكلفة الدفترية.

ساهمت هذه الحرب القاسية، في تحرير الحكومة الحالية من الملفات الصعبة. ما دمرته الحرب، كانت الحكومات المتعاقبة تخطط وتعمل للوصول إليه، لنتذكر مقولات من قبيل تصفية القطاع العام الصناعي، عبر خصخصته، وتراكم الفساد، وتزايد الخسائر…..الخ، ألم تك حرباً معلنة على ذاك القطاع؟ خسرت البلاد التي حوّلت، منذ آلاف السنوات، الحديد إلى محراث، وأداة القتل ( السيف) إلى أداة نافعة وآلة شكلت نقطة تحول ( المحراث)، خسرت، في غمرة التحولات العالمية اقتصادياً، فرصتها التاريخية، في أن تكون مقصداً للاستثمار الصناعي، وموطناً ثانياً للمستثمرين، كما كانت الموطن الثاني للآخرين. تعطلت الآلة التي كانت تنتج الملابس والأغذية، أكلها الصدأ، أطلق عليها المتحاربون رصاصات الرحمة. باغتها الموت البطيء الذي كانت تعاني منه. والسرطان الذي يعد الفساد أحد أشكاله نهش قدرتها على البقاء، فاقترب موعد قتلها. صناعتنا الخاصة والعامة، حقنتها الحرب بدواء خطير، يمنعها من الانطلاق ثانية، فمن سيبني مصنعاً في بلد تجتاحه الحرب مرة كل ثلاثة عقود؟

أما الجناح الأول والأكثر أهمية أي الزراعة، الحاضن الأكبر لليد العاملة، فكان الأكثر إهمالاً قبل هذه الحرب، واكتشف المسؤولون الحكوميون مدى قدرته على لعب دور حيوي في تأمين الغذاء للناس، والحد من الاستيراد، والتخفيف من الضغوط الهائلة على الميزان التجاري. أصبحت الزراعة المنقذ، أحبّتها الحكومات التي لم تنظر إليها بعناية، غدت بيضة القبان، في توازن الاقتصاد المتهالك، والقطاع الذي يتكىء عليه الاقتصاد الوطني. لكن في النصف الثاني من الكأس، ذاق الفلاح مرارة الحرب، حطمت آماله في جني محاصيله، كسرت خاطره لجهة قدرته على الوصول إلى حقله، كما جعلت تكاليف الإنتاج تفوق ثمن الإنتاج ذاته. اعتاد الفلاح على العطاء، فأخذت الحرب كامل عطائه، وسرقت قدراته على الاستمرار، و جعلت منه عاطلاً عن العمل.

قضية الأرقام والتقديرات المختلفة، لكلفة الحرب في سورية، التي تجريها مراكز الأبحاث، على أهميتها، تتجاهل فوات الربح. تدرس الخسائر، عقب تقديرها، وترسم الخطوط البيانية المتصاعدة لها، حسب السيناريوهات المتوقعة، لكنها تتجاهل ما نخسره نتيجة توقف الإنتاج، وما يمكن أن نسميه توقف التطور الذي يرافق العملية الإنتاجية.

ثمة خسارة مركبة، لاقتصادنا النامي، الذي لم يحمِه أحد كما يجب، أُهدرت احتياطاته من النقد الأجنبي، و ديونه تتراكم، فيما الفوائد ستخلق مشكلة مديونية باهظة، وغيرها الكثير من الخسائر. ومع أن كل الأرقام تبدو صحيحة، و جميع التقديرات التي تتناول الخسائر الاقتصادية للحرب في سورية تنطلق من ثوابت معينة، إلا أنها تُظهر أرقاماً تعكس فقط حجم الدمار الذي تعرضت له البلاد، بلادنا الجريحة، والمكلومة، والمطعونة، التي كانت فريسة شهية، للحرب والدمار، وما الأرقام سوى مؤشر مخيف على أن بلادنا بلا اقتصاد. إنها خمس سنوات من الجوع، والقتل، والدمار. خمس سنوات أرجعت سورية إلى عصور ما قبل التاريخ.

بالأرقام

خسارات الفلاح السوري الهائلة، بسبب هذه الحرب، خلخلت الثقة بين الفلاح وأرضه، وزعزعت العلاقة المتينة بينه ومحصوله، وهددت بطلاقه النهائي مع المهنة المقدسة التي أتقنها. ماذا عن اكثر من  مليون شجرة زيتون، و 1,2 مليون طن حمضيات، وتقديرات وصلت إلى  3 ملايين طن قمحاً، و 17 مليون رأس غنم عواس، والماعز الجبلي والشامي، والأبقار، ومنتجاتها المختلفة؟ أليست هذه هي الكارثة الحقيقية اقتصادياً؟ فيما يقف الجميع ضد هذه الثروة، يسرقونها، ويدمرونها، بأشكال مختلفة تحت ذريعة نبل الأعمال التي يقومون بها. وبالمسطرة ذاتها، يمكن القياس على بقية القطاعات الاقتصادية كالسياحة والتجارة والمصارف والنقل والبنى التحتية.

العدد 1105 - 01/5/2024