رواية «بالتساوي» لخليل الرز… كسر للبنى التقليدية

إذا كان ثمة قواعد للإبداع (كي لا أتجرأ على التعميم وأقول: قوانين) فإن المبدعين هم من وضعوها، وهم أيضاً من يتجاوزونها، بل ينسفونها! لذلك فإن أكثر المبدعين موهبة من كانت قواعده الجدية أكثر غرابة! ألم يقل (فلوبير): (كل غريب جميل)!

ـ الرواية: منتج إبداعي، حياة داخل الحياة، أتخيلها كرة داخل كرة، هي من مادة الكرة الأم نفسها، لكن لها غلافها الخاص بها الذي يسمح بتداخل مادتها مع مادة الكرة الأم باتصال وانفصال، تحتكّان إحداهما بالأخرى، تهتزان، فتمتزج مكوناتهما، وقد تثقب الكرة الصغيرة الكرة الأم، كما ثقبت رواية (الخلق) الوجدان البشري!

بالتساوي:

إذا كانت الحبكة المشوقة أو الطريقة غير المطروقة إحدى بنى الرواية التقليدية، فهذا لا يتوفر في رواية (بالتساوي)، لأن الحبكة غير مدهشة ولا مبتكرة، تحصل في الحياة، وتناولتها بعض الأفلام السينمائية، لكن الأفكار (ملقاة على قارعة الطريق)، والمبدع الأصيل هو الذي يتناولها بطريقة مبتكرة.

وإذا كانت الشخصية الملحمية العالية الجرعة الدرامية صانع الحبكة ومصنوعها في الرواية التقليدية، فهي ليست موجودة على تلك الشاكلة في الرواية أيضاً، فنحن مع أبطال عاديين في مواقف منتقاة من حياتهم.

إذاً نحن بالتساوي، لسنا أمام حبكة نلهث في ملاحقتها، ولا مع شخصية نتمنى أن نشبهها، نكرهها أو نحبها، فأمام أي شيء نحن؟!

رواية (بالتساوي):

(عبد الهادي) ـ بطل الرواية ـ ليس عبداً لجهة قبول سيطرة أبيه عليه، ولا (هادي) لأنه يتمرد على كل طغيان يفرض عليه، لم يدرس الصيدلة حسب رغبة أبيه، وهرب للعمل في لبنان وفشل، ثم لم تقنعه علاقته ببديعة التي قرئت فاتحتها عليه،  عن طريق علاقات أسرية، ما يفضي به إلى زواج تقليدي.

يقع (عبد الهادي) في حب راقصة الكاباريه (أزهار)، هذا رد فعل تقليدي على علاقته القسرية بخطيبته بديعة، لما تشكله العاهرة من نموذج مغرٍ للأنثى المنفلتة من قوانين البشر الكابتة للغريزة، مقارنة بنموذج الأم الذي يسعى الرجال للزواج بمثيلاتها! وهذا كله ليس بجديد، لكنه المحور الأساسي الذي بنيت عليه الرواية.

البطل الآخر هو (سميع)، أكبر من (عبد الهادي) بعشر سنوات، صاحب تجربة حزبية سابقة، موظف متوسط الحال، يعيش رتابة الموظف في حياته.

إن شئت مزيداً من الخيال في التحليل، فإن (سميع) هو وجه آخر لعبد الهادي، إنه ما لم يفعله عبد الهادي، وهو ما سيصير إليه عبد الهادي، أو هو مجموعة القيم التي سيعود إليها عبد الهادي بعد فشل حبه للراقصة. بلغة التحليل النفسي: هو أناه الأعلى، الذي سيشدّه أخيراً إلى جادة الصواب، ويلجمه عن الولوغ في التمرد والتفرد!

ـ تلك هي القصة! فأين هي الرواية؟!

لا تعتمد الرواية زمناً خيطياً، فهي مجموعة من الرجوعات الخلفية في حياة كلا الرجلين (أو الرجل الواحد، وحياة من صادفوا، وأثّروا، وتأثّروا بهم، هذا الزمن الذي تلاعب به الكاتب، فخلطه وداخله، قدمه وأرجعه، ما أضاف نقطة لصالح الرواية من حيث التكنيك السردي.

على أية حال، فإن اللعب بالزمن لا يضيف بحد ذاته قيمة جمالية إلى العمل الأدبي، لكنه يكشف عن قدرة الكاتب على امتلاك تقنيات جديدة للتعامل معه.

تنبق ابتسام (حبيبة سميع القديمة) في حياة سميع، ويصير لها خط روائي، كذلك تظهر عمة عبد الهادي، لتسرد وقائع من حياة الأسرة المفككة، ويظهر الرفيق الحزبي الذي جرته السمكة التي يصطادها بالصنارة نفسها وأغرقته في النهر، ويضيء (الرز) على علاقة أزهار بكل من صاحب الكباريه وابنه.. وهذا كله غير مفاجئ ويحصل كثيراً في الحياة.

لكن عند (خليل الرز) يحصل كل ذلك بتكنيك غير مألوف! سينما تفاصيل مدهشة مع قدرة عالية على المشهدية، في مونتاج ذكي على طريقة السيناريو، بأسلوب ساخر طريف، يجعلك تبتسم.

تدخل شخصيات اليوم مشهد البارحة، فينكسر الزمن، ويتجمع من جديد، ليجمع الشخصيات بطريقة جديدة، فيتفاعل الحاضر مع الماضي، فيتحقق حلم (آينشتاين) بالعودة بالزمن نحو الوراء، أو لنرى لوحات (سلفادور دالي) السوريالية!

هذا التكنيك هو الذي يرفع من سوية الرواية: إنه طريقة جديدة في الكتابة! وعلى الرغم من أن القارئ العادي قد لا يستسيغ مثل ذلك، لأنها طريقة مفاجئة، موتّرة، محفزة، تتطلب الكثير من التركيز، لكن كل ذلك هو ضريبة الشكل الجديد التي يدفعها إلى حين ثبوت جمالياته.

ثم تأتي التفاصيل المغرقة في اجتماعياتها، فتؤازر التكنيك في صنع طبق روائي غريب، تفاصيل تشبهنا حين يزاح الشرشف عن دواخلنا، لنجد أبطال (خليل الرز) عراة من الداخل، ينكشفون بفضل أدوات صانعهم التي لا تترك في دواخلهم وخافياتهم زاوية، إلا وتسلط الضوء عليها: تناقشها، تكذبها، وتصدقها، وتضع أكثر من علة محتملة لوجودها، فنجد أنفسنا عراة حين تخلع أدوات الرواية ملابسنا النفسية عنا! (مشهد الطبيب الذي يستميل خطيبة عبد الهادي في صيدليتها).

ـ (بالتساوي) مرة أخرى:

لقد كسر (خليل الرز)، في روايته (بالتساوي)، بالتساوي كلاً من الحبكة التقليدية المدهشة، ودراما الشخصية الروائية الملحمية، واكتفى بناس مكسورين مخلخلين خلال زمن مخلخل في حياتهم، لذلك فهم ينسجمون مع شكل الرواية الذي يجمعهم.

على أنه ينهي روايته بعودة بطله عبد الهادي مسنوداً على قرينه سميع، بعد فشله في حب الراقصة أزهار، إلى عروسه التقليدية بديعة في يوم عرسه، وكأنه يقول: (لم ينفع التمرد، فالسائد هو الأقوى).

مهلاً! لكنه يردف (إنه لن ينهي صباحاته الدورية إلا في بستان كليب، على الرصيف المقابل لنافذة أزهار) أي إن روحه ستبقى متمردة، غير عادية، كأسلوب صانعه غير المألوف في الرواية.

 

بشار البطرس

قاص ـ سيناريست

 

الكتاب: (بالتساوي) رواية

المؤلف: خليل الرز

الناشر: دار الآداب ـ لبنان (2013).

العدد 1107 - 22/5/2024