أنسي الحاج.. لحظة الشعر الفارقة

يمكن لمتأمل في مسار الثقافة العربية وانعطافاتها الكبرى أن يقف عند غير تجربة لافتة شكلت روافدها مرجعيات ثقافية ومعرفية متعددة، فضلاً عن أنه يمكن في المسار ذاته تلمّس حركة الإبداع وحركيته في آن معاً وهو يجوب آفاق حداثة تنفتح برؤيتها على اللغة لا سيما منها الشعرية لتمتحنها وتختبرها. ضروب كثيرة من اختبارات الحداثة ورهاناتها عبرت في فضائها أسماء لامعة، وعلى الأرجح أن الشاعر العربي الكبير أنسي الحاج كان واحداً ممن أسسوا في حركة الريادة العربية إلى جانب أسماء لافتة منها أدونيس وتوفيق صايغ ومحمد الماغوط وسواهم، الكثير حضور الصوت الأعلى بوصفه اللغة التي تبحث عن ذاتها وعن هويتها، لا لتقطع مع الموروث التقليدي العربي بل لتستأنفه وفق معطياتها وحوافز تجربتها الخاصة، وبهذا المعنى كان أنسي الحاج ينفتح على تيارات الحداثة وينطلق في رهاناته على جدوى الشعر في انعطافته نحو الفكر ونحو آفاق جديدة تذهب فيه اللغة لتكتشف متخيلها ولتبدع علاماتها المستحقة، ومنذ أن امتحنت الحداثة العربية في حرارة الأصوات الجديدة التي واكبتها، كانت الحداثة تعني الاستشراف والتجاوز والتعبير عن أفق التغيير في المناخ الشعري الذي يزحزح السائد ويتجاوز المألوف، وفي غمار اللحظة الشعرية العربية كان أنسي الحاج يجدد بخصوصيته وبفرادة لغته، يجدد حضور الشعر الأكثر انتباهاً لفاعلية الذاكرة والحلم وجدليات الحياة والموت وقيمة الإنسان بوصفه رمزاً كبيراً من رموز الحياة، وقد أعلن في (لن) انعطافته الكبرى وقاد الشعر من جديد إلى مساحة وافرة من اختبارات الحداثة ورهاناتها، إذ لم تكن الحداثة مغلقة بهذا المعنى، كانت ثمرة سجال ثقافي ومعرفي برع فيه رموز الثقافة العربية وأعلوا الصوت لنهضة قصيدة عربية مختلفة، ومسكونة بالتعدد وبخصوبة الخيال وبانفتاح الحدوس على ما يعنيه القول الشعري من معنى ثقافي مغاير وجاذب للاختلاف النوعي الذي ميّز منجزاً شعرياً بعينه ألقى به أولئك الرواد، سؤالاً شاقاً على الثقافة العربية لحظة تحولاتها أمام الذاكرة الثقافية العربية.

ولعل كثافة المجالات التي عمل فيها أنسي الحاج لا سيما الصحفية قد أتاحت له أن يكثف رؤيته في الشعر والإنسان، فكان ناقداً حصيفاً لما يقرؤه من مرجعيات في اللغة والأدب، والأجناس الأدبية المختلفة ومنها السينما والمسرح والرواية، تشهد بذلك تجربته على الأقل في جريدتي (النهار) و(الأخبار)، لتكون مادته الخصبة في الأخبار (خواتم) مثالاً على ذلك الاجتهاد المعرفي والثقافي الذي يستقرئ حركية الإبداع، ويؤسس لنظرة جديدة في قراءة ماهية الإبداع، وفي المقابل على أفق رؤيته كانت الفلسفة تجدد شرطها لتتماهى مع الإبداع وتأتي بصورتها الباذخة عنواناً لإبداع رفيع يجدد الصورة خارج البلاغات القارة، وخارج ما هو سائد، وكل ذلك كان يعني لدى أنسي الحاج أن سؤال الشعر كما سؤال القصيدة قد أصبح سؤالاً معرفياً بامتياز، ومنه فإن سؤاله للإبداع العربي برمته هو سؤال المرجعيات التي تؤلف كيانه المعرفي وتنفتح على صيرورته التاريخية ليحتفي أنسي الحاج بالكتابة بوصفها رؤية، ويحتفي بالشعر وعبر مدوناته بعلاماتها الفارقة نشيداً للإنسان الذي يراه الأجمل على وجه هذه الأرض، متعاطفاً مع ضعفه ومنخطفاً إلى الجماليات البكر ولا يكتفي بها.

كان في مشروعه الشعري سؤالاً امتد إلى أزمان مفتوحة على الذائقة، وكيف يستولد من هذه الذائقة، من جديد، الأسئلة المنتجة التي تنحاز للإنسان بوصفه القضية الكبرى أيضاً، وفي ذلك المسار كانت ذاته الشعرية تحفر لتتصل بكينونتها مثاقفة نوعية وتأصيلاً حصيفاً، كل ذلك خلاصته كانت في مشروعه الذي نزعم أنه انفتح بغير حدود، ولم يتوقف عند حدّ بعينه.

وفي هذا المعنى نقرأ أنسي الحاج في تعدده واختلافه وبصيغه الشعرية وبمحصولها النثري العالي الذي ناهض تقليدية الكتابة طويلاً ليشتق من خلالها شكلاً معرفياً يمتح من روافد التراث ومن ظلال الحداثة الواعية الأكثر تعبيراً عن قلق الإنسان العربي المعاصر وتحديات مستقبله.

أنسي الحاج هو نسيج اللحظة الشعرية العربية التي لم تطمئن لمنجزها، بل شرعت أمام الذاكرة كل أسئلتها بممكنات جمالياتها التي لا تنتهي، يقول أنسي الحاج: (يا للحب ماذا لا يفعل الإنسان بسببه؟ لو أحجم العاشق عن الانبهار بالمعشوق لما بقي إلا مجاعات الشبق العمياء، ياما أجوف الحب لولا لوعة المستحيل التي تخترقه)

 ويوضح أنسي الحاج أنه لا يتكلم عن النواحي الجمالية فحسب، بل على الطباع والأخلاق، ولا عجب إذ يذهب إلى استبار المسافة التي يقطعها العاشق كمدى بين المعرفة ونقيضها، وكذلك على نحو مغاير تفسيره لموسيقا الشعر، إذ يقول: (الشعر الموزون المقفى، هو صناعة ثمرتها ليست بأثيرية الموسيقى وإتقانها لا يستوجب الجهود والكفاءات التي يستوجبها إتقان التأليف، لكن الشعر إضافة إلى الإلهام والخزن الداخلي هو صناعة بوجهيه اللغوي والإيقاعي، جهة الصناعة هذه هي ما حول البعض عن النظم إلى النثر لا لصعوبة النظم… بل في محاولة لتضييق الشقة بين الهيولى وتطورها، بين الشرارة والعبارة، وهكذا في الشعر الحديث ومع قصيدة النثر خاصة تجاوزنا مسافة، لا لننفذ إلى صحراء، بل لنصوغ لغة أقرب).

تلك إطلالة غير مكتفية بعوالم الحاج ليبقى نزوعها إلى أن ما يكتمل لدى قارئ الحاج هو وعي أن تجربته هي تجربة العبور والاختراق بامتياز.

العدد 1105 - 01/5/2024