السمات العامة للصناعة السورية قبل الأزمة

ضرورة الخروج باستنتاجات جدية من السياسة الاقتصادية السابقة لأجل مستقبل سورية اللاحق

 لقد اتصفت الصناعة السورية قبل الأزمة القائمة في البلاد بعدد من السمات ولدت بسبب بعض التقلبات التي طرأت على أوجه نشاط القطاع الصناعي ومن أهمها:

* لم تكن هناك استراتيجية صناعية واضحة المعالم والأهداف.

* سيطرة الصناعة التحويلية وخصوصاً الغذائية منها والنسيجية على هيكل الناتج الصناعي، إذ تراوح نصيبها بين 51 و61%، إضافة إلى صناعات أخرى تعتمد على المواد الخام والوسيطة ونصف المصنعة المستوردة.

* إنتاج سلع استهلاكية أو تجميع المكونات المستوردة، وتقتصر إجمالاً على الحلقات الأخيرة من السلسلة التكنولوجية.

* ضعف القدرة التنافسية مما كان يؤدي إلى انخفاض حجم صادرات الصناعة.

* خلل في هيكلية المؤسسات والشركات الصناعية القائمة، ذلك أن عدد الشركات المساهمة قليل جداً، ولا تشكل أكثر من 20% من الشركات المرخصة، ومعظم شركات القطاع الخاص عائلية مغلقة أو شركات صناعية تجارية.

* تدني المردود الاقتصادي الصناعي، خاصة العام، وانخفاض جودة منتجاته وتراكم مخزونه وبطء حركته وتخلف قدراته الشرائية.

* تدني أداء القطاع الصناعي، خاصة العام، بسبب انخفاض مستوى الموارد البشرية من حيث المهارات الفنية المؤهلة، وانعدام سياسة التحفيز للتطوير والابتكار وتدني الأجور.

* تطور علمي وتكنولوجي متواضع، وضعف حركة الرأسمال والمنتجات.

* ضعف البنية الاستثمارية وانخفاض مستويات الاستثمار الصناعي، وعدم توجيه المستثمرين باتجاهات مستندة إلى قواعد بيانات موثقة عن الاحتياجات الفعلية وحجم الطاقات المطلوبة بدلاً من تركيزها في صناعة بطيئة.

أما بالنسبة للسلع السورية فكانت تتصف بأنها:

* سلع نمطية غير منافسة من حيث الجدة، وذات جودة متوسطة.

* لا تساير تطور حاجة المستهلكين وأذواقهم، وتكاد تخلو من أي تجديد أو ابتكار، مع جمود بالنوعية والشكل وأسلوب التغليف والتعليب.

* تدني النوعية نتيجة المنافسة السعرية والعرض الكبير نتيجة إغراق السوق المحلية بالمنتجات المرخصة وغير المرخصة.

* القيمة المضافة عليها متدنية جداً بالمقارنة مع مثيلتها في الدولة الصناعية.. ففي الصناعات النسيجية التي كانت تشكل العمود الفقري للصناعة السورية كانت هذه القيمة تتراوح بين 7,3% في مرحلة الغزل، و4-5% في مرحلة النسيج ولا تتجاوز 15% في صناعة الألبسة في القطاع العام، و30% في القطاع الخاص، وكثيراً ما كانت تباع منتجات القطاع العام دون قيمة التكلفة. أما في الصناعات الكيميائية فالوضع مماثل من حيث الدورة الإنتاجية، حيث كانت تتم عمليات تحويلية بسيطة تعطي قيمة مضافة متدنية كانت تتراوح في القطاع العام بين 2 و15% وكانت تصل في القطاع الخاص حتى 35% بشكل عام وحتى 40% في الصناعات الدوائية.

لم تكن تختلف الصناعات الهندسية كثيراً من حيث الطابع عن الصناعات السابقة، فالعمليات التحويلية بسيطة، وإنتاجيتها محدودة، والقيمة المضافة لا تزيد عن 15% في القطاع العام ولا تتجاوز 40% في القطاع الخاص.

وعلى الرغم من التوسع الواضح الذي جرى في الصناعات الغذائية السورية، وخاصة في القطاع الخاص، لم تستطيع هذه الصناعة إحداث خرق فعلي، فبقيت صناعة تحويلية بسيطة لا تتجاوز قيمتها المضافة في القطاع العام عن 15% وفي القطاع الخاص عن 30% (1).. ولا تشكل صناعات التقانة المتوسطة والعالية ذات القيمة المضافة المرتفعة سوى 9,4% من مجموع الصناعة السورية، وكانت سورية تعد من الدول المتخلفة في هذا المجال.

كما كان يلاحظ أن البحث والتطوير في المؤسسات الإنتاجية السورية محدود جداً ولأسباب عدة، أهمها طبيعة المنظومة الاقتصادية السورية وتغير القوانين، والاعتماد على الصفقات الطارئة، وليس أقلها أهمية ضعف علاقة منظومة العلم والتقانة مع المجتمع، وكذلك عدم تخصيص ميزانية للتطوير إلا في حالات قليلة، وهي لتحديث التجهيزات أكثر منها لتطوير المنتجات، وضعف الأطر العلمية والتدريب والتأهيل المستمر في المؤسسات الإنتاجية، وتدني مستوى الأتمتة الصناعية والإدارية في المؤسسات الصناعية وخصوصاً إذا قورنت مع المؤسسات الصناعية في الدول المتقدمة.

إن هذه المؤشرات السلبية التي سيطرت في العقود السابقة ومارست تأثيرها السلبي على الصناعة السورية، كان لها ارتباط وثيق الصلة بالسياسة الاقتصادية التي مارستها الحكومات السورية المتعاقبة خلال الفترة الماضية، والتي اتسمت بتخبطها وعدم اتباع نهج واضح المعالم يؤدي بخاتمة المطاف إلى وضوح الرؤية فيما يتعلق بالتطور الاقتصادي والاجتماعي في البلاد.

إن التأثيرات الخطيرة التي مارست تأثيرها السلبي على الصناعة السورية جاءت إذاً نتيجة السياسات الاقتصادية الانفتاحية غير المدروسة التي اتبعت خلال العقد والنصف الأخيرين بالدرجة الأولى، والتي كانت نتائجها كارثية على الصناعة السورية وعلى الاقتصاد السوري بصورة عامة وعلى مختلف فئات الشعب، وشكلت أحد العوامل الداخلية الأساسية في اندلاع الأزمة في البلاد.

إن تجربة العقود الأخيرة في المجال الاقتصادي والآثار التي خلفتها على البلاد، وخمس سنوات من الأزمة السورية الطاحنة، تستوجب الدراسة العميقة لها، واستخلاص النتائج والعبر الضرورية كي تستطيع سورية السير على الطريق الذي يمكن أن يؤدي إلى تحقيق تطور مزدهر في البلاد، ويحول دون تكرار هذه المأساة التي تعيشها سورية. إن كل ذلك يتطلب من أصحاب القرار ومن القوى المجتمعية الحية أن تقدم أجوبة عن أسئلة يتوقف عليها التطور الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، مثل:

ما هي حصيلة عقود فيما يتعلق بالتنمية، وهل تحققت بصورة شاملة في البلاد؟ ما هي معوقات التنمية الذاتية والموضوعية؟ وما هي مستلزماتها؟ وكيف يمكن تحقيقها في ظل العولمة؟ وما هي اتجاهات التطور الاقتصادي اللاحق؟ هل سيكون اقتصاداً موجهاً، أم اقتصاداً حراً، أم اقتصاداً يحمل سمات الاثنين معاً؟ وما هو الموقف من قطاع الدولة؟ وأي دور سيؤديه؟ وكذلك الموقف من القطاع الخاص والدور الذي يؤديه، وبالتالي ما هو دور الدولة في العملية الإنتاجية، وكذلك دورها في المجال الاجتماعي؟ وما هي القوانين التي يجب أن تكون ناظمة للحياة الاقتصادية؟ وهل يمكن إلغاء السوق في الاقتصاد المبني على التبادل؟ وكيف يمكن استخدام اليد الخفية للسوق في إحداث التنمية؟ وما هي آليات ضبط السوق، ودورها في تطوير القوى المنتجة؟ وهل يمكن إقامة منافسة بين قطاع الدولة والقطاع الخاص؟ ما هي العوائق التي أدت إلى تراجع دور قطاع الدولة، وبالتالي عدم إمكانية تحقيقه التنمية المستدامة؟ وما هو دور البيروقراطية في ذلك؟ هل يمكن أن يوجد قطاع دولة خال من البيروقراطية العائق الأساسي لتطوره؟ وما هي السياسة التسعيرية؟ وهل يمكن معرفة تكاليف الإنتاج في قطاع الدولة؟ وهل يمكن التحكم في أسعار السوق؟ وما هي آليات ذلك؟

الاستثمارات.. مستلزماتها وعملها، وهل يمكن التحكم في اتجاهات نشاطها، ودورها في التنمية المستدامة؟ ما هي السياسة الإقراضية التي يجب اتباعها ودورها في تحفيز الإنتاج، ودور البنوك في العملية الاقتصادية؟..الليرة السورية، هل يمكن الحفاظ على قيمتها من خلال الدعم، أم أنه من الضروري تعويمها؟

التضخم هل يمكن التحكم به؟ هل يمكن القطيعة مع أوربا والولايات المتحدة؟ وما هو مستقبل العلاقات العربية العربية في المجال الاقتصادي؟ وماذا يجب أن يكون موقف سورية من مسألة الاستدانة الخارجية؟ كيف يجب أن تكون السياسة الاقتصادية السورية اللاحقة في مسألة التطور المتناسق في البلاد؟ وما هي الظروف التي يجب أن تتحقق من أجل الحد من الهجرة العشوائية من الريف إلى المدينة؟ وكيف يمكن أن يلعب القطاع الإداري دوراً إيجابياً في العملية الاقتصادية، وما هي المعوقات؟ ما هو السبب في عدم الربط بين تطور مختلف القطاعات الاقتصادية، والاهتزازات التي أدت إلى عدم توازن النمو الاقتصادي؟ ولماذا لم تكن هناك دراسات جدية فيما يتعلق ببناء المؤسسات الصناعية، لا من حيث الريعية ولا من حيث قربها أو بعدها عن مصادر خاماتها، ولمَ لم تربط بمراكز الإنتاج والسوق؟ ماذا يجب أن تكون عليه السياسات التي تشجع المبادرات الإبداعية عند السوريين، وتحافظ على البيئة؟ ولماذا تحولت مكاتب التشغيل إلى نوافذ للفساد؟ وكيف يمكن معالجة مسألة الفساد وإضعاف الأسباب المؤدية إليه، وبالتالي كيف يمكن الوقوف بوجهه؟

وأخيراً، ما هي السياسة التي يجب اتباعها لإعادة إعمار البلاد؟ هل ستكون بالاعتماد على قروض البنوك الدولية والدول المانحة، أم ستكون بالاستناد إلى الإمكانات السورية، وإلى دعم القوى الصديقة، أم ستكون خليطاً بين الاثنين؟ وكيف يمكن إعادة إعمار سورية مع الحفاظ على استقلال القرار السياسي السوري؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها ستكون حسب اعتقادنا مدخلاً لوضع سياسة اقتصادية واضحة لا نزال نفتقدها إلى وقتنا الحاضر.

العدد 1105 - 01/5/2024