«العالمية تبدأ بشارع من قريتي»

كثيراً ما يتساءل النقاد والقراء عن أسباب انتشار إنتاج الأدباء: هل هو النوع (الجنس الأدبي) الذي اختاروه حاملاً لأفكارهم، وجسراً للعبور إلى أفئدة وعقول المتلقّين؟ أم يكمن السبب في الموضوعات التي يتناولها الأدباء والتي تهم أوسع شرائح المجتمع؟ أم القضية متعلقة بطريقة التناول والموقف من تلك المشاكل المعالجة، والجرأة في الكشف عنها، وتقديم الحلول المناسبة لها؟!

ثمة من يقول إن قيمة الأدب لا تكمن في الموضوعات التي يتحدث عنها الكتاب، مهما كانت نبيلة وعادلة وحيوية ومصيرية، وإنما العامل المحدد هو الشكل الفني الذي يختاره الأديب لإبلاغ رسالته.

حامل نوبل (على ما لها وما عليها) الذي ودعنا قبل أيام، المحب الكبير للإنسانية، الذي لا ينحني إلا لمساعدة محتاج، والذي أيد قضايا الشعوب في التحرر ومواجهة الرأسمالية المتوحشة، المنافح للحد من التفاوت الطبقي، والمنحاز إلى الجماهير الشعبية الذي جعل من قريته المتخيلة (مكاندو) مكاناً معروفاً للعالم يشعر كل قارئ أنه يعرف شوارعها وحاراتها ويستطيع التجول فيها بحرية، كأنها ضيعته.

كل هذا الإنجاز لا يكفي ليجعل من ماركيز كاتباً عالمياً، لو لم يستطع أن يبدع أشكالاً فنية متناسبة مع أفكاره الإنسانية، ومضامينه الاجتماعية.

في إبداع ماركيز أحد أهم روائيي العالم، الذي يغالي بعض النقاد فيجعل منه الأجدر بخلافة (سرفانتس)، بخاصة بعد روايته (مئة عام من العزلة) التي حصل بفضلها على جائزة نوبل، نجد تعالقاً بين المحلي والعالمي، وكذلك في غيرها من أعمال الفقيد الكبير، فقيد الإنسانية الداعي للابتسامة حتى في قلب الحزن، والقائل: (إن الإنسان لا يشيخ إلا عندما يتوقف قلبه عن الحب) هذا الكاتب الصحفي المبدع، وكاتب المقال المميز الذي كتب القصة بالمصادفة، ثم انتقل إلى كتابة الرواية، ما استطاع أن يتربع على عرش الرواية العالمية لولا ابتكاره الأشياء واستفادته الخلاقة من مخزون التجربة الروائية في العالم.

نسبت الواقعية السحرية إلى ماركيز، والأكثر دقة أنه من أهم من استخدم هذه الطريقة في الكتابة، المبنية على مرجعية الواقع، وقدرة العقل الإبداعي، على التخييل، جامعاً بين تفاصيل الحياة اليومية وما تملكه الأسطورة من قوة تأثير يشبه السحر، لأنها إنتاج عقل جمعي إنساني، يحاول أن يجيب عن أسئلة الحياة ومصير الإنسان في تلاقح بين الغرائبي والعجائبي والراهن.

يقول ماركيز: (لقد عشت لأروي)، وقد سبقه نيرودا عندما قال (أشهد أنني قد عشت).

يعتبر ماركيز معظم ما كتبه من حكايات منقولاً عن أمه، بدءاً من (عاصفة الأوراق) حتى (عشت لأروي)، مروراً بـ (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه)، و(خريف البطريرك)، و(الجنرال في متاهة)، و(الحب في زمن الكوليرا).. إلخ.

أما روايته (قصة موت معن) التي يتحدث فيها عن جريمة قتل سانتياغو إبراهيم نصار، بتهمة ملفقة، فهي رمز لتعاطف المبدع مع حركات التحرر الوطني في العالم، ومعروف دلالة الاسم، فهو عربي فلسطيني، سانتياغو نصار ليس شخصاً عادياً التقطه الكاتب من الحياة، إنه رمز والرمز هنا ليس تعبيراً أيقونيا  عن واقع، بل هو سمو وارتفاع فوقه.

جمالية الرمز وما يثيره في نفس المتلقي من مشاعر وانفعالات إنسانية، تتأتى من كونه يخلق لدينا عالماً آخر… متخيلاً.. يكون بديلاً عن الواقع الجاف الذي نعيشه، وقيمته تتحدد في الفضاء الدلالي الذي يفصل بين الرمز ومدلوله، فكلما ابتعدت المسافة وذهبت عمقاً أصبحت إثارة الرمز أقوى، وأشد تأثيراً، شريطة عدم الفصل بين الدال (الرمز) والمدلول في جدل الاتصال والانفصال وصولاً إلى الدلالة المفتوحة.

استفاد ماركيز في عمله من خبرته في الصحافة، فوظف المقالات الصحفية، والتحقيقات في عمل روائي، وحبكة بوليسية شائقة، مؤكداً اتساع صدر الرواية كجنس أدبي، وقدرتها على استيعاب منجزات الصحافة والأجناس الأدبية الأخرى، هذه الرواية قال عنها ماركيز: إنها عاشت في صدره أكثر من عشرين عاماً، إلى أن وجدت شكلها النهائي.

لم يعد ماركيز كاتباً كولومبياً، ولا مواطناً مكسيكياً، إنه مواطن عالمي، إنساني، حافظ على جوهر وخصائص انتمائه إلى أمريكا اللاتينية بكل قضاياها ومشاكلها، مع انفتاح على معضلات الإنسان في سائر أنحاء العالم.. وبذلك يحق لكل إنسان أن يحزن عليه، ويشعر بألم بخسارة كاتب كبير وروائي عالمي.

العدد 1105 - 01/5/2024