أمريكا اللاتينية ملحمة لروائع ماركيز

قصة الحياة على شاطئ الكاريبي، بما فيها من حب وكراهية، من عادات وتقاليد، من ثقافة وفن، من سياسة وأساليب حكم، من نفوذ وتسلط للأمريكيين والأوربيين، من حروب وثورات، ونبات وإنسان، من بحار وبحيرات شكلت الفضاء الواسع الذي تحركت فيه شخصيات غبرييل غارسيا ماركيز روايات وقصصه وأعماله، فأغنت أعماله بجمالية سحرية خاصة.

غبرييل غارسيا ماركيز أحد الأدباء الكبار المبدعين في أمريكا اللاتينية الذين فرضوا وجودهم الأدبي منذ أواسط القرن العشرين أو قبل ذلك بقليل. كان قد خيل للعالم أن جيل الأدباء الذي سبق مرحلة ماركيز ورفاقه قد نضب إنتاجه وأنه يعاني من قحط أدبي، وأن الطبقة البرجوازية وحدها أعطت الأدباء القادرين على عطاءات فنية، بسبب أن هؤلاء كانوا ينتمون إلى الأصول الأرستقراطية الثقافية (إذا جاز التعبير).

غير أن أدباء هذه الطبقة ظل أدبهم بمنأى عن قضايا الشعب ومآسيه وتطلعاته.

في العقود الأولى من القرن العشرين بدأ تأثير الرومانسية، في المحاولات الروائية في أمريكا اللاتينية متأثرة بـ (لامارتين، شاتو بريان، جورج صاند، ألكسندر دوماس وغيرهم). من هؤلاء الأدباء جورج إيزاك (الكولومبي) ومانويل سيدو وغيرهما، وقد واجه أدب أمريكا اللاتينية في هذه المرحلة مؤثرات سياسية وقومية وواقعية ونزعة اشتراكية واضحة. وقد بدأ هذا الأدب يختطّ لنفسه تقاليده الخاصة في الثلاثينيات من القرن الماضي. وقد مثل هذا الخط، جورج أمادو، ومونتيرو لاباتو وغيرهم، ممن تجلى في أدبهم التغلغل في روح الشعب بحثاً عن قيم جوهرية ورصداً للقوى القادرة على التغيير، وإذ حفلت بعض الروايات بتصوير آلام الشعب، فقد ألحّ بعضها على الجانب الثوري، القادر على فرض إرادة الشعب في التغيير في النهاية.

وفي منتصف القرن العشرين استطاعت الرواية (الأمريكية اللاتينية) أن تقف على أرض صلبة متميزة عن سواها.

 

الطابع السياسي

في أعمال ماركيز

تلعب السياسة دوراً هاماً في أعمال ماركيز، فقد كان يستخدم العديد من النماذج المجتمعية ذات الطابع السياسي من مختلف بلدان أمريكا اللاتينية، من الأحداث الواقعية، والمتخيلة، لتبيان وجهة نظره ومعتقداته، هذا التنوع في الظروف والأساليب التي يقدمها ماركيز في تمثيل السلطة السياسية هو نموذج عن أهمية السياسة في أعماله، ويمكن استخلاص هذه النتيجة وهي أن السياسة يمكنها أن تتجاوز نطاق المؤسسات الخاصة بالسلطة السياسية، على سبيل المثال يظهر في روايته (مئة عام من العزلة) – عام ،1967 أنه ما زال ينقص وجود التصويت عليه وسنّه في الكونغرس بمباركة من الرئيس ذاته الذي يمكن أن ينظم العلاقات بين الرجال والسلطة العامة وتفعيلها).

وفي المقابل ظهر (الديكتاتور) كنوع من تمثيل النظام السياسي في روايته (خريف البطريرك) ،1975 إذ يصبح الزعيم شخصاً مثيراً للاشمئزاز، وفاسداً ومتعطشاً للدماء وبيده سلطة غير عادية، يخشاه الجميع ويأتمرون بأمره ولا تخرج إجابتهم عن: طوع لك سيدي، وكما تأمر، الخضوع المطلق لشخص الرئيس. وبهذا يقدّم ماركيز نموذج الحاكم المستبد الذي كان يؤرقه طيلة حياته. وهو يتساءل: كيف يمكن لشخص يحكم بسلطات مطلقة أن ينجو من الفساد بكل أنواعه الذي تولده هذه السلطة المطلقة نفسها، ونجد صفحات فيها إجابة عن سؤال: من هو الديكتاتور؟

 

ماركيز وقضايا المرأة

عبر ماركيز عن واقعية واهتمام كبير بقضايا المرأة في مختلف أعماله، خاصة في روايتيه (أحداث موت معلن) 1982 و(ساعة نحس) عام 1962.

ويبدو شرف المرأة فيهما الموضوع المحوري؟ ففي الأولى يكتشف العريس ليلة الزفاف، بعد عرس أسطوري، أن العروس ليست عذراء، فيعيدها إلى أهلها قبل انبلاج الصباح. فيضطر أخوها إلى قتل المتهم سانتياغو نصار، وليس هو المذنب الحقيقي، إذ لم يستطع أحد إدانته طوال سنوات المحاكمة:

قتل نصار في جو من الثأر العائلي واسترداد (الشرف المفقود) في جو لاتيني محافظ نوعاً ما، ويفاجأ القارئ عند قراءته الصفحات الأولى من الرواية بتصريح ماركيز عن موت بطل الرواية، لكن مع ذلك لم يقلل الإعلان عن موت البطل من هول الموقف الأخير والأحداث المصاحبة له. فالرواية تحكي عن طريق الاسترجاع الزمني تفاصيل الأحداث المصاحبة لموت سانتياغو. وجميع الدلائل والعلامات تشير إلى معرفة الكل بالجريمة التي ستحدث قبل وقوعها، عدا صاحب الشأن، تتابع وتصعيد رهيب.ناس تحكي وناس تبكي والحقيقة الأخيرة والخيط الفاصل في كل هذه الأمور ما زال في قلب فتاة صامتة ترفض الإفصاح عن الاسم الحقيقي لحبيبها. وفي الرواية الثانية تعيش البلدة حالة رعب دائم مما يسمى (المنشورات) وهي ملصقات سرية ليلية تبدو كالسراب الذي لا يمكن إدراكه، تفضح علاقات جنسية غير مشروعة أو مختلفة، فتصل بهم إلى حد أن يقتل بعضهم بعضاً أو يهجروا قريتهم إلى الأبد.

يبدو موضوع الروايتين على هذا تقليدياً، كثيراً ما يحدث بين ظهرانينا في العالم الثالث، وكثيراً ما تناوله الكتاب والمخرجون، وصفق له القراء والمشاهدون، حتى غدا موضوعاً مستهلكاً في الساحتين الأدبية والفنية اليوم، فما الذي يجعل كاتباً بمكانة ماركيز يتناوله في المنعطف الرابع للقرن العشرين.

يقول الكاتب السوري المبدع وليد الحافظ في مقالة نشرها قبل سنوات: (من المؤكد أن ماركيز لا يبغي مجرد تأليف رواية مثيرة، ولا إشباع تعطّش الإنسان الشرقي القابع في أعماقنا إلى دم ينبجس من صدر المتهم، بل يقدم تحليلاً لشخصية الإنسان المقهور، الذكر والأنثى على السواء، في مجتمع متخلف هو مجتمع أمريكا اللاتينية الذي تفصلنا عنه آلاف الأميال، ولكن العالم الثالث بشرقه وغربه تحكمه قوانين التخلف رغم مظاهر الحضارة من مؤسسات تعليمية وثقافية).

ويلخص د. مصطفى حجازي في كتابه (التخلف الاجتماعي – سيكولوجية الإنسان المقهور). خصائص هذا الإنسان بما يلي:

1ـ أنه يعاني من عنف مزدوج، عنف الطبيعة، (جفاف، فيضانات..إلخ)، وهذه الكوارث تصيب أفقر مناطق العالم، وعنف المستبد، فأشد الأنظمة ضراوة تنيخ على صدر هذه المجتمعات.

2ـ لا يملك الإنسان المقهور لمجابهة المفاجئات خاصة السيئة منها، إلا التمسك بالماورائيات (الميتافيزيك) والتعلق بالخرافة أو الاتكالية المفرطة.

3ـ مغلوب على أمره دائماً. يفقد الموقع التغييري الفعال. وإلى جانب عقدة النقص هذه يعاني عقدة العار، يخجل من ذاته وعجزه وبؤسه، ويشعر بأن كرامته مهددة، ولهذا تحتل العزة والكرامة مكانة أساسية في وجوده، فهو يفقد كيانه إذا فقد كرامته.

ولهذا فإن العار كله يسقطه على المرأة، المرأة العورة، فيربط شرفه كله بالحياة الجنسية لها، فيصبح القتل مبرراً ومعترفاً به اجتماعياً تحت اسم (جريمة الشرف) وهو تحويل للعار عن مصدره الأساسي: (الاستغلال والتسلط)، إلى المرأة المستضعفة، وفظاظة الرجل المقهور الداخلية.

وهذا ما يعتبر انهياراً للتفكير المنطقي وحجباً لوضوح الرؤية. هذا البنيان الاجتماعي الهش وهذا الإنسان المقهور وقطبه الآخر السلطة الظالمة، هما موضوع روايتي ماركيز السابقتين الذي استطاع أن يغوص في أعماق مجتمعه وأعماق مواطنه المقهور بعمق وشمولية وترابط.

إن التزام ماركيز بقضايا مجتمعه والإنسان في العالم، القضية الأساسية في كل ما كتب معبراً عنها بأساليب فنية جعلته في مصاف قمة كتّاب القرن العشرين.

العدد 1104 - 24/4/2024