عقد إعادة الهيكلة..لمن ذهبت ثمار النمو؟

بين عامي 2000و 2010 جرت إعادة هيكلة الاقتصاد السوري، من اقتصاد موجه تقوده الحكومات، إلى اقتصاد حر تلعب فيه السوق وآلياته الدور الأساسي، فمَن قطف ثمار هذا التوجه..ومن شدّ على البطون؟

1 – مؤشرات اقتصادية (رسمية)

أ – بلغ الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة 1378 ملياراً و321 مليون ليرة سورية في عام 2008، مرتفعاً عن عام 2007، بنحو 90 مليار ليرة سورية، وساهمت الزراعة بنسبة 14.7 %، متراجعة عن 4ر20% في عام 2007، كما ساهمت الصناعة الاستخراجية بنسبة 14.5%، مرتفعة عن 12.8%، في عام 2007، كذلك ازدادت مساهمة الصناعة التحويلية من 7.9 %، في عام 2007، إلى 9.8%، في عام 2008، وحافظت التجارة على قيادة النشاط الاقتصادي، رغم تراجعها من 20.4% في عام 2007،إلى 19.3% في عام 2008، وبلغت مساهمة القطاع الخاص 68 %، وبلغت حصة الفرد من الناتج 69332 ليرة سورية، بمعدل نمو بلغ 4.4% عن العام السابق.

ب – بلغت التكاليف الاستثمارية للمشاريع المشملة بمرسوم الاستثمار رقم 8، نحو 538 مليار ليرة سورية، خلال عام 2008، ستوفر 23235 فرصة عمل، والأمر العجيب هنا أن مجموع الاستثمارات الصناعية المشملة على قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991، والمرسوم التشريعي رقم 8 لعام 2007، بلغت 1467 مشروعاً، قُدّرت تكاليفها الاستثمارية بـ 883 مليار ليرة سورية، ومع ذلك فإن مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي لم تتجاوز 10%!

أما فرص العمل التي وفرتها منذ عام 1991 حتى عام 2008 فلم تتجاوز 131630 فرصة عمل!

ج – بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة ملياراً و 187 مليون دولاراً في عام 2008، مرتفعة من 898 مليون دولاراً، وبلغت التكاليف الاستثمارية للمشاريع الأجنبية، أو التي تضم شركاء عرب أو أجانب ما نسبته 43% من مجموع تكاليف المشاريع المشملة على قوانين الاستثمار، وستوفر 40543 فرصة عمل.!

د-شَهِدتْ مجموعة من المنظمات والصناديق المالية الدولية بصوابية التوجه الاقتصادي وضرورة تفعيله أكثر فأكثر، وعادت هذه الصناديق إلى إيفاد خبرائها للمساعدة في سرعة تحويل الاقتصاد السوري إلى نهج السوق الحر بواسطة دراسات ونصائح تفيد بتسليم الاقتصاد الوطني للقطاع الخاص، وابتعاد الحكومة عن التدخل في عمل الأسواق وآلياتها، وتخفيض الدعم الاجتماعي للفئات الفقيرة، وأخيراً نصيحتهم الشهيرة بتخفيض حصة أرباب العمل في النظام التأميني، وتخفيض تعويضات العمال، وتعديل قانون العمل بما يخدم سيطرة المالكين على سوق العمل في البلاد، وتنصّل الحكومة من حماية العمال في عقودهم مع أصحاب العمل.

2 – مؤشرات اجتماعية مُحبِطة

عشر سنوات، لم تكن كافية، حسب مخططات مهندسي الاقتصاد في تلك المرحلة، لملاقاة هموم المواطن السوري الذي لا ينتمي إلى النخب المالكة.. المهيمنة، فَمَن أرادوا تحويل الاقتصاد السوري إلى اقتصاد رأسمالي، قادوا معركة شرسة لإلغاء مفهوم الدعم الاجتماعي للفئات الفقيرة والمتوسطة، بحجة تكلفته المرتفعة التي تنهك خزينة الدولة، ولم يتفتق ذهن هؤلاء عن وسيلة لدعم الخزينة إلاّ بتقليص دعم المواطن، بدلاً من زيادة إيرادات هذه الخزينة عن طريق ملاحقة المتهربين من الضرائب.. والفاسدين.. والمرتشين.. وتجار الصفقات، هؤلاء الذين أرهقوا خزينة الدولة، وفوّتوا عليها المليارات.!

هل تحولت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية إلى معركة، فيها منتصر.. ومهزوم..؟ الجواب: نعم، إذ تبين أن بعض من تسلّموا دفّة الإصلاح الاقتصادي آنذاك، أرادوا من هذه السياسات ليس تحديث الاقتصاد وتطويره بهدف تحقيق طموحات الشعب في الزمن الذي اتسم بالتحولات العاصفة وثورة المعلومات وعولمة الاقتصاد، بل الاكتفاء بوصفة قديمة.. جديدة هي ترك الأمر للسوق، أي ببساطة شديدة، التحول نحو الرأسمالية، فعمدوا إلى استغلال نهج (اقتصاد السوق الاجتماعي) ومضوا في تنفيذ كل ما من شأنه تحقيق الشق الأول من النهج المعلن بوتيرة سريعة ولافتة، أما الشق الثاني وهو الاجتماعي فهو مؤجل بعد أن رُبط بالتراكم الموعود الذي سيحدثه نجاحهم في إضفاء الطابع الرأسمالي على الاقتصاد السوري. المواطن السوري شعر أن طموحه إلى اقتصاد تعددي.. وتنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة، أخذ منحى آخر:

أ – لم يقتنع المواطن بأهمية ارتفاع نسبة النمو، إذ لم تترافق مع إعادة توزيع ثمارها على الفئات والشرائح الاجتماعية وفقاً لمبدأ العدالة الاجتماعية، بل ذهبت إلى التجار الكبار والمستثمرين وأسياد الأسواق، وتفاقمت في الوقت نفسه الأزمات المعيشية والاجتماعية للفئات الأقل دخلاً من العاملين وصغار المزارعين والمتقاعدين، وتضاءلت دخولهم الحقيقية بعد تفرّد القطاع الخاص بالأسواق، وتسبّبه بموجات غلاء متلاحقة وصلت إلى 60%، بين عام 2004 وعام 2008، وانخفضت حصة الرواتب والأجور (مجموع دخول العاملين بأجر) من الناتج المحلي الإجمالي بتكلفة عوامل الإنتاج من 22% في عام 2000 إلى 19% و18% عامي 2005 و2006، وهذا يعني أن الدخل الناتج عن الربح والريع والفائدة يزداد على حساب دخل العمل، وتوسعت بؤر الفقر لتبلغ أكثر من 40% من عدد السكان.

ب- التعددية الاقتصادية تحولت إلى تفرد القطاع الخاص بالأسواق، وتقلصت مساهمة القطاع العام الصناعي والتسويقي، بعد أن قررت الحكومات المتعاقبة وقف تدخلها في عمق العملية الاقتصادية، وأحجمت عن توسيع استثماراتها في المصانع والشركات الحكومية، وماطلت خلال السنوات الخمس الماضية في معالجة أوضاع هذا القطاع، فزادت خسائر مؤسساته.. وتفاقمت صعوباته المالية والتقنية والإدارية، وعشش الفساد في الكثير من مفاصله، وهكذا انخفضت حصة القطاع العام من صافي الناتج المحلي في الصناعة التحويلية من 41.7 % عام 2002، إلى 18 % في عام 2007.

 ج – جاء قرار حكومة (العطري) برفع أسعار المازوت أكثر من مرة ليزيد من أعباء الفئات الفقيرة والمتوسطة ومصاعبها، إذ تسبب بارتفاع أسعار المواد والخدمات الأساسية للمواطن، وساهم مع عوامل المناخ بتراجع جدي لقطاع الزراعة، وارتفاع تكاليف الصناعيين أمام الواردات الآتية من كل أصقاع الأرض!!

د– بقيت مطالب العاملين بأجر الذين يشكلون الغالبية العظمى من السكان، بوضع سلم للأجور يتناسب مع غلاء الأسعار يراوح في المكان، في حين سنّت الحكومات حزمة من التشريعات التي هدفت إلى مراعاة المالكين.. والمستثمرين حفاظاً على مصالحهم.. وتخفيفاً لأعبائهم في مواجهة منافسة السلع العربية والأجنبية المتدفقة إلى أسواقنا بعد تحرير التجارة الخارجية.! إنه عرض مختصر لمسيرة عقد، لعبت فيه السياسات الاقتصادية دوراً فاعلاً في التمهيد لعقد آتٍ، مليء بالمفاجآت.. والمآسي، وأيضاً بالعبر والدروس.

العدد 1105 - 01/5/2024