ماركيز المتعدّد من الصحافة إلى الرواية: جدلية الاختلاف والتماثل

تطرح تجربة الروائي الكولومبي العالمي غبرييل غارسيا ماركيز بتحولاتها وانعطافاتها السردية، الكثير من الأسئلة، على مستويات عديدة لا تكتفي بمآثر جمّة في خصوصية الإبداع الروائي لأمريكا اللاتينية، قارّة وثقافة، بل تحفر في أوليات التجربة السردية الأكثر استدعاءً للذاكرة الثقافية، ولعل تجربة ماركيز هي الأدلّ حضوراً ومساءلة لمرجعياتها ومكوناتها، أي النصوص الغائبة في عوالمه الروائية ما من شأنها أن تغذي درسنا النقدي، ليستقرئ علامات باذخة جهرت بها روايات، ومنها (مئة عام من العزلة) على سبيل المثال.

وإذا كان لنا أن نتحدث عن (هوية سردية) شكلتها سرديات شفوية وتراكمات معرفية، كانت نسيج ثقافة العالم وثراء متخيله، فإن سؤال المرجعيات سيذهب إلى أفق معرفي بامتياز لن يتخفّف-على الأرجح- من ذلك المزيج الثّر والمدهش ما بين الشرق والغرب.

ثمة ما يتصّل بالرواية التي رآها ماركيز قدراً، شأن الكتابة والإبداع، وبتلك الأوليات المؤسّسة لها وعلى نحوٍ نَوّع فيه سرد العيش، وعيش السرد، كمعادلٍ حواري فذّ، يعيد فيه الروائي تأثيث الأزمنة والأمكنة، ورسم مسارات لحيواتٍ ومصائر وتواريخ فارقة، ومنها الصحافة كواحدة من تلك المرجعيات، لما لها من تأثيرات عميقة في تخصيب سرده، الذي تمثّل في مضمراته وأنساقه، وربما في خطابه الروائي، تراث الحكايات العربية -الليالي- بنزوعها العجائبي- الغرائبي، فضلاً عما تركه في أسلوبيته الحاذقة الروائيان الشهيران وليم فوكنر صاحب (الصخب والعنف) وجيمس جويس صاحب (عوليس). عام ،1954 كان ماركيز صحفياً في صحيفة الأسبكتادور الكولومبية، وهو من رأى أن (الصحافة أحلى مهنة في العالم) ألأنه شُغِف بالمقالة والتحقيق الصحفي والتحليل، أم لأنه عرف -بالخبرة والموهبة والثقافة والدراية وبسلطان الرؤيا – كيف يعجن من التفاصيل خبز معرفة سنرى كل تجلياتها فيما أبدعه من روايات، فمنذ خمسينيات القرن الماضي عمل ماركيز مراسلاً صحفياً، في الصحف المحلية الصادرة بمسقط رأسه في كولومبيا، قبل أن ينتقل إلى سواها.

وربما أتاحت له الصحافة أن يستلهم وقائع وأحداث، وسيولة سردية ستتحقق بوصفها أفعالاً إبداعية ناجزه تأخذ أشكالها الإجناسية (قصة أو رواية) مضاعفة بوعي كبير، في قدرته على مزج المتخيل بالواقع، ليتساءل عارفوه هنا: (ما الخيال وما الواقع، ماركيز لا يقدر أن يميّز بين الاثنين)، بل إن الأكاديمية الملكية السويدية قالت إثر منحه جائزة نوبل عام 1982 (في رواياته وقصصه القصيرة تلتقي الأسطورة والواقع) وفي لقاءهما (كقدر) تنهض تجربته الصحفية تماثلاً واختلافاً، لتنجز ذاتها بما سمّي في رواياته بالواقعية السحرية، منجزاً ليس تقنياً فحسب، بل جمالي يقوم على استعادة الحكايات واستثمارها في الواقعي ومفارقاته وغواياته وسحره، ليكتب من أجواء عمله الصحفي روايته (أجمل غريق في العالم) التي نشرت بأدق تفاصيلها في الصحافة.

وإذا كانت آخر مساهماته الصحفية عام ،1959 قد فتحت الأبواب أمامه، ليشرع في روايته -العلامة (مائة عام من العزلة) التي صدرت عام ،1967 وترجمت لـ خمس وثلاثين لغة حية، لتتلوها (ليس للكولونيل من يراسله) عام ،1961 و(قصة موت معلن)، عام ،1981 و(الحب في زمن الكوليرا) عام 1985 وصولاً إلى آخر رواياته عام ،2004 وهي (مذكرات غانياتي الحزينات) فإن الأسئلة المفتوحة عن علاقة الصحافة بالرواية، أو انتقال ماركيز إلى الرواية التي أحبّها ومكّن متلقيه من أن يعيشها كما الحياة ذاتها، ستظّل تتأمل تلك القدرة التي أضفت على الكتابة لذة لم تمنحها النصوص فحسب، بل الثقافة والمرجعية للمبدع ماركيز الذي عرف كيف تتخاطر ذائقة البشرية وثقافاتها مع أعماله، مانحة إياها عدوى الخيال، وتشابه الأفكار في الأدمغة المختلفة، بل ذلك القدر من التداخل بالأفكار، واستيلاد مشتركات من كثافة سرد علينا كقراء أن نترصّد علاماته السّرية في مدوناته الفاتنة التي عرف ماركيز كيف يجعل منها على قدر محسوب من جاذبية لا نهائية، فهل خرجت الرواية من معطف الصحافة؟!.

محض عشق لذيذ وغامض، مستتر ومعلن كما سيرورة بحوامل ثقافية، سوى تتبدّى لقارئيه في زمن آخر، دلالة الواقعية السحرية التي حسب ماركيز ذاته وفق مرجعيتها الحديثة ما يتجاوز شبيهاتها: (كطيران المرأة، ومطر الضفادع… إلى مدرسة جديدة هي الواقعية المأساوية).

وهل كان قدر الصحافي روائياً على نحو يصبح فيه الخبر متناً سردياً، وتفاصيله كثافة جمالية رأيناها في (الحب في زمن الكوليرا) والتحقيق الصحفي، حبكة منتظرة، والأشخاص الواقعيون، هم متخّيلون على الورق أو على دروب الحياة، وغرائبية ما رآه، واقعية بمعنى ما، تلك هي مكونات لهوية سردية مازالت تمثلاتها تكسر أفق التوقع، وتمحو تأويلاً آخر لما عناه ماركيز المبدع بـ (ملحمة الحياة)، وأسطرة الواقع، وتفكيك مرجعية واستحضار أخرى، بتوليفةٍ تجعل من التاريخ رمزاً، وما الشخصيات في قلب المرجعية ذاتها، سوى هوية سواء استلهمت من الغرب أو الشرق، أو من طبقات أمريكا اللاتينية الكثيفة. والصحافة فن التقاط اللحظة، لتعبر لدى المبدع كل أكوانه الأخرى، فمن يفكك شيفرة الحياة، القدرة على الحلم، أو الذهاب في احتضار، لتكون لعبة الحياة وفق دراميتها القدرية أكثر من متخّيل روائي، وأبهى من واقع روائي كذلك، ظلّ ماركيز عاشقاً للصحافة، وفي قلب مآثرها وهو يودع الحياة، فقد قال دائماً ما شعر به، وفعل ما فكر فيه، وبرهن بقدر متساو في التجربة عما صيرته إليها أقداره..

العدد 1105 - 01/5/2024