الاستبعـاد الاجتماعي «التهميش»

 يمكن تعريف الاستبعاد بأنه:

إقصاء لأشخاص أو مجموعات سياسية أو عرقية أو طبقية عن الحاجات الأساسية، أو عن الانخراط الاجتماعي بمختلف مؤسساته، رغم وجود رغبة لدى هؤلاء المستبعَدين في الانخراط في مجتمعهم كأطراف في عقد اجتماعي، يؤمّن لهم المشاركة والحصول على الحقوق المتمثلة بالحق في الحياة، والحق في التعليم الجيد والمجاني، والحق في العمل، والحق في العيش الآمن. وبذلك فإن الحكم الرشيد يعني الاعتماد على القوانين التي تساوي بين جميع المواطنين مهما اختلفت طوائفهم أو مذاهبهم أو أفكارهم الأيديولوجية أو منابتهم الطبقية، ويضمن كذلك حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، ضمن إطار دستور متفق عليه يحافظ على تماسك البلد من أجل الوصول إلى العدالة الاجتماعية وفق إطار التنمية المستقلة المتوازنة المستمرة.

وتأتي أهمية دراسة ظاهرة الاستبعاد الاجتماعي من كونها سبباً مباشراً في تقسيم المجتمعات وظهور بؤر التوتر والانقسام فيها، وظهور الأجواء المستقبِلة لكثير من الأمراض الفاتكة بالمجتمع، وكذلك نقص المناعة لدى الكثير من الكفاءات، مما يجعلها تهاجر إلى خارج البلد. فالاستبعاد الاجتماعي هو عكس عملية الاندماج التي تقوم عليها المجتمعات، حتى إن مفهوم المواطنة ذاته يعدّ ناقصاً مع وجود بوادر الاستبعاد الاجتماعي فيها..

فوجود الإثنيات والطوائف وجود طبيعي في جميع المجتمعات، ولا يمكن أن يشكل خطراً عليها إلا إذا اقترن بفكرة النقاء والاصطفاء أو امتلاك الحقيقة لفئة أو طائفة دون غيرها. لذلك يمكن التعامل مع نتائجه مع التسليم بوجوده. وهذا الاختلاف مهما كان نوعه يخفّ حتى يتلاشى في ظل عدم اللجوء إلى استبعاد أي جزء منه، وفي ظل حكم القانون.

وهناك نوعان من الاستبعاد الاجتماعي: أحدهما متعلق بالنخبة الكرتونية أو المصنّعة تصنيعاً بعيداً عن العضوية أو الإبداع الحقيقي، أو بالطبقة العليا في المجتمع. والآخر بطبقة المهمشين فيه. الأولى لأنها مكتفية، والثانية لأنها مُقصاة. الأولى لها مبرراتها بنفي نفسها اختيارياً، والثانية لا تستطيع أن تبرر شعورها بالاستبعاد.

الأولى عادة ضيقة، والثانية غالباً مفتوحة وتزداد مساحتها مع الوقت.

الأولى لها أخلاقياتها، والثانية كذلك. الأولى تمجّد الوضع الراهن، والأخرى تطلب التغيير. وتكثر ظاهرة الاستبعاد الاجتماعي في المجتمعات الريعية، وأثبتت الدراسات أن عملية توزيع الريع عامل هام في وجود مثل هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة.

وإن أهم سلبياتها هو انزياح المجتمع ضد نفسه ومكوناته، بل إنه حتى في المجتمعات المتقدمة شكلت جيوب المهمّشين مشكله للأنظمة والحكومات. والخطورة في مجتمعاتنا لها شقان لا يتعلقان فقط بأطراف المجتمع نفسه (الطبقة العليا والطبقة الدنيا) بل في غياب الطبقة الوسطى كذلك واضمحلالها.

السياسات الاقتصادية التي اعتُمدت لدينا على مدى سنوات، أدت إلى نتائج سلبية ترافقت بانتشار أمراض اجتماعية خطيرة، فتفشّت البطالة وازداد الفقر وازداد الفساد وعمت العنوسة للجنسين وكثرت الجريمة، وكثرت وتنوعت الانحرافات الأخلاقية كظواهر جديدة مفاجئة للكثيرين، وشُلّ القطاع العام، وتقلصت الخطط الزراعية وعجزت الصناعة عن المنافسة غير العادلة. هذه الأمور نتج عنها شبه انهيار للطبقة الوسطى التي هي أساس التوازن والتطور الاجتماعي والتي أصبحت في الطريق إلى الزوال وفق المعيارين المالي والأخلاقي، وهذا تحوّل خطير.

ولكن لا يزال هناك وقت وإمكانات لتجاوزه وفق عمل منظم متكامل، ووفق نية وإرادة صادقة وجادة، فالملاحظ أن الأفراد الباقين من هذه الطبقة ما زالوا الركيزة والأمان للمجتمع، وهم ينتشرون في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ووجود شبه فراغ في الفئات العمرية القادرة على الاستمرار بمتابعة النهج الاقتصادي والاجتماعي. وبالتالي لابد من كسب الوقت من خلال قراءة المؤشرات في جميع المجالات، ومعرفة الخلل الذي حصل والاعتراف به من أجل وضع الخطط الإنقاذية الكفيلة بإعادة الاعتبار لهذه الطبقة بما يؤدي إلى قوة المجتمع وصلابته من جميع النواحي، وإلى الانطلاقة الصحيحة نحو تطوير القوانين والتشريعات وتحديثها بما يتماشى مع متطلبات الواقع السوري.

كان الهدف الرئيسي من فرض الوصفات الجاهزة للمصرف الدولي ولصندوق النقد الدولي على البلدان هو: تهديم البناء التنموي ومنع استمرارية التنمية على قواعد صلبة، وإرجاع عجلة التنمية مسافات كثيرة منعاً من استقلاليتها وربطاً لها بركابها وإرضاء لغرور الإمبريالية الغربية المتمثل بتبعية بلداننا الدائمة لهم من أجل استمرارية النهب والسلب.

إن إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى بشتى ألوان الطيف السوري اتقاء لمنع زوالها هو الركيزة الأساسية التي يجب توجيه جميع السياسات نحوها، ومن هذه السياسات:

 – تحسين المستوى المعاشي للمواطنين عبر ثنائيتي تحسين الأجور ومراقبة الأسعار من جشع التجار. ولا بد من إصلاح واقعي حقيقي للقطاع العام.

– الوصول إلى جودة ذات معايير محلية لكل من الصحة والتعليم مع مجانيتهما في القطاع العام، ومتابعة ومراقبة مستمرة لهما في كل من القطاعين العام والخاص، وجعل المنافسة أساس استمرارية العمل في كل من القطاعين للخدمات الصحية والتعليمية.

– مكافحة الفساد بجميع أشكاله، وخاصة الفساد الإداري، بحيث تكون الكفاءة هي الأساس والمعيار للتعيينات، ويكون هناك حملة مستمرة لاجتثاث الفساد وخاصة من القضاء والأجهزة التفتيشية.

وهناك مؤسسات وطنية أثبتت أنها قادرة على ضرب أعمدة الفساد في حال إعطائها الصلاحيات المناسبة.

– تفعيل دور المنظمات والهيئات المدنية من نقابات مهنية ومنظمات رسمية، من أجل النهوض بالواقع الاجتماعي والثقافي والرياضي أساساً لنهوض المجتمع واستمرار نموه. – إعادة الاعتبار لمؤسسة الأسرة التي تشكل اللبنة الأساسية للمجتمع، وتكامل دورها مع المؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية لتشكيل الركيزة الأخلاقية المؤدية إلى التآلف الاجتماعي.

– تأمين عوامل الاستقرار للمواطن من سكن لائق ودخل ثابت، والعمل على إنشاء صناديق اجتماعية مؤقتة قادرة على الإحاطة والتخفيف من الأمراض الاجتماعية الخطيرة الناجمة عن ظاهرتي الفقر والبطالة، والعمل على تفعيل دور المؤسسات القادرة على مواجهة هذه الأمراض، كالدعارة والتسول والمخدرات والكحول وعمالة الأطفال والتشرد.

– العمل على عودة المغتربين الذين تقوم التنمية في مختلف البلدان على كفاءتهم ومهاراتهم والاستفادة من مدخراتهم في إقامة الاستثمارات التي تدعم التنمية بشتى أنواعها..

 – تفعيل دور القطاع الخاص من حيث عدالة الاستثمار، إضافة إلى تصدّيه لدور اجتماعي يساند القطاع الحكومي في خدمة المجتمع، والوصول إلى قانون عمل يضمن حقوق العمال وأصحاب العمل.

وأخيراً فالمهم هو السرعة في سلوك الطريق المؤدي إلى إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى من أجل تحقيق الأهم المتمثل في بنية تنموية صلبة وقوية قادرة على مواجهة المطبات والمخاطر الحالية والمستقبلية. إن تحقيق هذه الغاية ليس صعباً، لتوفر الموارد البشرية والمالية والمادية. فسورية تحوي في مؤسساتها وفي مختلف محافظاتها الكثير من ذوي الحكمة والرجال الأقوياء والشباب المندفعين النشطين القادرين على التمازج للوصول إلى الهدف المنشود.

ويشكل الوصول إلى الديمقراطية عبر مراحل أو برامج وسياسات جسراً يمكن العبور فوقه لتجاوز هذا الأخطاء ، فليس بالضرورة أن يكون المجتمع منتجاً للديمقراطية، ولكن الضروري هو الاقتناع بها واستيعابها. مع العلم أن الديمقراطية ليست عطاء يُمنَح إنما هي ثقافة لها أسس وبنى اقتصادية واجتماعية وثقافية واقتصادية، وبالتالي يمكن أن نصل إلى ما نتمناه من ممارستها عبر مراحل مختلفة متوافق عليها بما لا تجعل هناك تهميشاً أو استبعاداً لأي طيف أو شخص في مراحلها الأولى، وصولاً إلى المعنى الحقيقي الذي يستغرق زمناً لتكريسه ثقافة فاعلة وبناءة.

العدد 1105 - 01/5/2024