عن شعر الكورس وأشكاله.. خواتيم القصائد وحكاية المرافئ الأخيرة !

(طويلاً، سافرتَ، أيّها الشاعر في شمس المجهول.

قل لي: أكان هناك من ينتـظركَ، غيرُ ظِلّك؟

ولماذا، إذاً، تشكو من المنفى

 كما لو أنّ هناكَ مكاناً آخر؟)

طبعاً هذه الحالة، من الوحدة، و..التفرد، قلما تنطبق على أحدٍ من الشعراء، غير أدونيس، و.. رغم أنه هنا يشكو المنفى مكاناً أخيراً للشاعر المتفرد، غير أنه إذا ما استثنينا أدونيس، و..قلة غيره، قد لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، ليس في سورية، وحسب، بل في كل فضاء هذا العالم العربي، نجد أن ثمة حالة من التشابه، تكاد توصل القصيدة المعاصرة، التي لم يتجاوز عمرها مئة سنة بعد، إلى مرافئها الأخيرة. و..هذا ما حذّر منه ذات حين من الدهر الشاعر الإنكليزي شيلي، الذي قال: إنني ضد شعر الكورس بجميع أشكاله، و..نماذجه !!

فلوهلةٍ يشعر المرء – ولاسيما إن كان متابعاً – وكأن كل الأمور وصلت إلى خواتيمها.. حالة من العبث تسود اليوم، تجعلك تسأل بكامل الخيبة: وماذا بعد؟؟!

ما يُشبه الخواتيم

كل (الأشياء) فقدت دهشتها، أو لم تعد تستطيع الإدهاش، تسأل ما هذا (الكائن) الذي لم يعد يعجبه شيء، وتحتار كذلك، هل (الإشكالية) في هذا الكائن – المتلقي، أم الأشياء ذاتها التي وصلت إلى منجزها النهائي، وأقصد بـ (الأشياء) هنا كل المنجزات الإبداعية، على مختلف الصعد، لكنها تبدو جلية بأشدّ صورها في القول الشعري..!

فقصيدة أدونيس التي بشّر فيها ومن قبله عدد من الشعراء، وأقصد قصيدة النثر، وصلت إلى القصيدة العارية اليوم، وكأنها مقدودة من خشب..!

يُقال إنّ أول المبشرين بالتحولات الجديدة في عالم الشعر العربي، هم جماعة (الرابطة القلمية) عام ،1920 الذين كان من بينهم ميخائيل نُعيمة، وفي بداية الثلاثينيات كان ألبير أديب ينشر في مجلته (الأديب) فقرات نثرية على شكل مقاطع غير مكتملة، ولا تجمعها فكرة وحدة النص العضوية الشكلية و الموضوعية.. غير أن بداية تبلور الحداثة في الشعر العربي كانت بين عامي 1947 و1949 من خلال نشر نصوص لـ (فرسانها): بدر شاكر السياب، أدونيس، بلند الحيدري،، و..نازك الملائكة، فقد نشر السياب (شناشيل ابنة الجلبي) في نهاية الأربعينيات، فيما نشر أدونيس في مجلة القيثارة قصائد مثل: (خريف زنبقة) العدد الرابع، تاريخ 6 تشرين 1946 و(الفردوس الخيالي) العدد السابع كانون الثاني 1947 و(سكرة الصراع) العدد (11) عام 1947 أيضاً قصائد: (مجابهة، وعي النداء، مؤمن، عاصفة، هذه و تلك، صدى، سؤال، انطلاق، ابتهاج) و..عشرات القصائد غيرها.

نماذج تُحتذى

و..اليوم، وبعد مرور كل هذه السنوات على بداية الحداثة الشعرية العربية، هل استطاعت الأجيال الشعرية الحديثة أن تتوحد في مجال الإبداع الشعري، وتحدد اتجاهاته النهائية، ومن ثم أصبحت منشغلة بإنتاج نصوص ذات قيمة إبداعية حقيقية.؟! كما يمكن أن نسأل أيضاً: لماذا حصلت قطيعة شبه تامة بين الناس والشعر الحالي؟ و..كيف يستطيع الشاعر إعادة الحد الأدنى من دوره في أن يلفت نظر الناس إلى أهمية إبداعه الشعري؟؟

لاشك في أن العملية الشعرية بسماتها العامة انتقلت إلى أفق آخر، لنقل إنه أفق المعاصرة، وتمّ في هذا المجال الوصول إلى منجز شعري يُحتذى من قبل الأجيال الجديدة، ويُشكّل لها محفزاً للإبداع، ومصدر إلهام، وإنه بقدر ما يكون هناك شبه اتفاق على سمات معينة، تكون لكل تجربة خصوصيتها، لونها، رائحتها، صحيح أنه في الشعر ليس هناك توحد، ونتائج نهائية، لأن هذا معناه الموت، لكن، ضمن هذا الحراك، لابد لكل مبدع أن يُحافظ على تفرده في مجال القول الشعري، لأن أهميته تأتي دائماً من هذا التفرد، لكن الحقيقة أن ثمة تقليدية أوقعت الشعراء الحاليين فيما يُشبه حالة الكورس، وحتى لا نعمم، لا شك في أن ثمة شعراء حافظوا على نتاجهم الشعري من هذه (التقليدية) هنا بالتأكيد فإن قصيدة صقر عليشي لا تشبه غير ذاتها، وهكذا ينطبق القول على قصيدة نزيه أبو عفش، لكن كم باستطاعتنا أن نعدد أكثر، وإلى أي رقم قد نصل، هل نتجاوز الخمسة، أشك في ذلك. وغير هذا، فإن حالة من التشابه طغت على الأغلبية ولاسيما في شعر النساء على وجه الخصوص، تحار أحياناً، من صاحبة هذه القصيدة، حتى كأن كل الشاعرات يرددن القصيدة ذاتها، بالمفردات ذاتها، وبالهم ذاته، وبالتخييل الشعري نفسه!!

دون جدوى

فمنذ الستينيات وحتى اليوم، والشعر السوري يقدم المفردات ذاتها، وأحياناً البنية الشعرية ذاتها، هنا لا يغيب عن بالنا أن الشعر هو أكثر الفنون الإبداعية تمثلاً ذاتياً للمعطى الخارجي المحفز، ونحن ننتمي إلى زمن فاقد للإنسانية، فاقد لأحاسيسه، وهو زمن مغيب للشخصية الفردية والمبدعة، انكساراتنا واحدة، أحزاننا واحدة، هواجسنا واحدة، غربتنا واحدة، أحلامنا – إن بقيت لنا – واحدة.. لكن هل كل هذا يبرر أننا أصبحنا متشابهين في كل تفصيل، و كلٌّ منا يبحث عن خصوصيته، لكن من دون جدوى!!

هل الأمر يعود أيضاً إلى  أن مفرداتنا واحدة مادمنا نتمثل هذا الواقع المتجسد في محدوديته بانعكاسٍ واحد؟؟! مع ذلك هذه تقليدية، و.. لكن في هذا الإيقاع الممل في رتابته لهذا الذي اسمه (العيش) داخلياً وخارجياً، نتساءلُ: كيف للمبدع أن يبتكر الجديد؟!

فإذا كانت قصيدة النثر آخر أشكال القصيدة العربية ظهوراً قد وصلت إلى مرافئها الأخيرة، فإن القصيدة العمودية، كانت استنفدت كل جمالياتها الغنائية والإيقاعية تكراراً منذ عهود طويلة ولم تفلح معها كل جهود شعراء (الكلاسيكية الجديدة) أوائل القرن العشرين وأواسطه من أن يضخوا الدم بعروقها المتيبسة، فكان نتاجهم، وكأنه منجز مكتمل ضمن دائرة زمنية ضيقة، ومن ثم كان أن انتهت، وهكذا كانت قصيدة التفعيلة، التي لم تكن إلا مرحلة تشبه الجسر للعبور بالقصيدة العمودية إلى قصيدة النثر.

إرهاصات لشكلٍ جديد

صحيح أن الإبداع لا يشيخ – كما يذكر أدونيس عندما سألته عن حقيقة وصول قصيدة النثر إلى (التقليدية) واستنفاد جمالياتها- وما قد يشيخ – قليلاً أو كثيراً- هو شكل التعبير، فاليوم لم نعد نكتب مثل أبي تمام والمتنبي، ليس لأن هذا الشكل لم يعد صالحاً، بل لأن المتنبي وأبا تمام أوصلا أشكال تعبيرهما إلى ذروة لا يمكن تخطيها، فإذا كتبت مثلهما، فأنت محكوم عليك أن تبقى في ظلهما، ولذلك نحيد عنهما لا رفضاً لهما، بل نعيد بطريقتنا الخاصة تجربة ما قاما به بابتكار أشكال جديدة، و..اليوم يبدو أن أشكال الشعر نفسها قد استنفدت، أو لم يعد لديها خيارات لأن تقدم نفسها مستقلة، ولاسيما مع ظهور (القصيدة العارية) التي صارت تعادل الكلام العادي واليومي، وتخلت عن (صور) كل الشعر، الذي ليس إلا صوراً، لكن ليس صحيحاً أن تنزل القصيدة إلى هذا الدرك من (العادية) وكأنه ليس أمام القصيدة العربية اليوم إلا سلوكان: إما الإغراق في الذهنية التي لا تقول إلا ركاماً لغوياً، أو الهذر بما هو عادي.

هل يعني هذا أنه ليس أمام الشعر اليوم، من سبيل للظهور، وقد استنفد أشكال ظهوره كجنس أدبي مستقل، إلا أن (يتسلل) في الأجناس الإبداعية الأخرى..ربما، وما المشكلة في أن (يتمدد) الشعر في الأجناس الإبداعية على تنوعها!؟

فـ(لصناعة قصيدة ما

يلزم الكثير من الضوء المشتول

والديكة المنحوتة

يلزم أزميل لحروف العلة

ومبرد لأدوات التعجب

جارور لألوان الطيف

وممحاة لأحلام اليقظة

ولن ننسى حبل غسيلٍ أزرق

نجفف فوقه فكرة أو فكرتين..)

هكذا ينصح عابد إسماعيل، ذلك أن الخروج على القانون هو قدر  القصيدة الجيدة، و ليس ثمة قصيدة ذات مستوى لا تتناقض مع عصرها و لا تتصادم معه، فكلّ قصيدة كتبت بصرف النظر عمن كتبها، و في أي عصر كُتبت فيه، هي محاولة لإعادة هندسة النفس الإنسانية، بل هي محاولة لإعادة صياغة العالم، على ما يرى الكثير من المبدعين.!!

العدد 1104 - 24/4/2024