أبراج من ذهب

(منذ زمن مارغريت تاتشر أصبحت المؤسسات الأكاديمية في خدمة الوضع الراهن)

تيري إيغلتون

تقف الجامعات في كثير من الأحيان خارج المجتمع، في ما أسماه البعض (أبراجاً عاجية). لكن الجامعات لم تكن فقط عبر التاريخ حيزاً محايداً خارج المجتمعات، بل أيضاً والأهم أنها كانت دوماً عصية على (انغماس الرأسمالية) بها وتحويلها إلى مؤسسات شبيهة بمؤسسات الأعمال مثلها مثل غيرها من وسائل الإنتاج.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر البلدان رأسمالية من حيث تسليع الأشياء، وحتى تلك التي تعتبر أساسية لحياة الإنسان مثل الصحة، فإن التعليم العالي بقي، حتى الأمد القريب، خارج إطار (السوق) بحيث شكلت الجامعات الحكومية والجامعات الخاصة ملاذاً يؤمّن العلم للملايين خارج إطار العرض والطلب والسوق والمقدرة المادية على التعلم. كما أن أنظمة الحكم داخل الجامعات لم يتبع نظم المؤسسات الرأسمالية، فقد سادت في الجامعات ديمومة العمل وانتفاء النظم التراتبية والحريات الأكاديمية.

كل هذا جعل الجامعات واحات خارج أطر الرأسمالية وعاداتها. كان هذا في الماضي، وخصوصاً في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته ، بعد أن وسعت الإدارات الأمريكية شبكة الوصول إلى التعليم العالي رداً على إطلاق الاتحاد السوفييتي (سبوتنيك) في 1957. لكن منذ بداية الثمانينيات تلبدت أجواء الرأسمالية واكفهرت وكانت تحضّر نفسها لتصبح أكثر قساوة وقتامة.

في أواسط الثمانينيات كنت أدرس في جامعة تكساس في أوستن، وكانت من أرخص الجامعات الحكومية الأمريكية وكانت كلفة السنة الدراسية للأجانب وغير التكساسيين تبلغ نحو 1800 دولار سنوياً! في تلك الفترة بدأ بعض نواب برلمان تكساس بالهجوم المضاد متهمين هؤلاء الطلبة بأنهم يستغلون مالية الولاية، وإلى ما هنالك من اتهامات أخرى، وزيدت الأقساط 200% مرة واحدة. كانت هذه البداية، وكانت الجامعة نموذجاً لما سيحصل بشكل أكثر حدة في السنوات التالية، حيث قوى الرأسمالية ستجر الجامعات معها إلى وحل المنافسة وعدم المساواة وزيادة ساعات العمل وإقصاء الناس عبر الأسعار ومحاولة ضرب ديمومة العمل للاكاديميين وصولاً اليوم إلى الشيء الأخطر من هذا كله وهو وقوع الجامعات في (متلازمة ستوكهولم).

فبعد عقود من محاولة أخذها رهينة من قبل الرأسماليين وممثليهم السياسيين، أصبحت الجامعات هي نفسها تحاول أن تقلد المؤسسات الرأسمالية من حيث محاولتها أن تكون لديها (صورة) مؤسسة رأسمالية أو ما يحكى مؤخراً عن الجامعة الريادية في عام 2014 أنتجت السي ان ان فيلم (البرج العاجي) روت فيه قصصاً من هذه التحولات، إحداها كانت حول جامعة (كوبر يونيون) في نيويورك التي أسسها بيتر كوبر في 1859 جامعة خاصة مجانية تمول نفسها من ثروة عقارية قدمها. في عام 2011 أُتي برئيس جديد للجامعة، وهو نموذج رؤساء بعض الجامعات الأمريكية في عصر النيوليبرالية وسيطرة الرأسمال المالي، بحيث ينظر هؤلاء الرؤساء إلى أنفسهم على أنهم رؤساء تنفيذيون وليسوا أكاديميين تعيّنهم مجالس إدارة يسيطر عليها أكثر وأكثر رجال الأعمال الجدد الفارغون فكرياً والحاقدون على الأكاديميين، وليس كما في السابق رجال الأعمال الحالمون  الذين شكلوا دعامة للتعليم العالي الحر والرفيع المستوى من أمثال أندرو ميلون وأندرو كارناغي (على الرغم من كونه صديق سبنسر!). الرئيس الجديد هذا أتى ليفرض الأقساط ويلغي المجانية التي استمرت 155 سنة، وذلك لأن الجامعة تحت ضغط التحول إلى شبه-بيزنس استدانت 175 مليون دولار لبناء مبنى كلّف المتر فيه 10 آلاف دولار (!!!) ووقعت تحت أزمة مالية. تبين لاحقاً أن جزءاً من القرض لم ينفق على البناء وإنما استُثمر في أحد الصناديق التحوطية العالية المخاطر. عندما سئل الرئيس الجديد حول الموضوع وعما إذا كانت هذه الخطوة خطوة طائشة لجامعة أكاديمية، كان جوابه إنه لا يعلم عن هذه الأمور كثيراً ليحكم عليها!

عندما سئل جوزيف كنيدي كيف استطاع أن يكون من القلة التي تفادت الخسائر الفادحة التي نتجت بعد الأزمة الكبرى للأسواق المالية في 1929 قال ما معناه: كنت أتكلم مع أحد ماسحي الأحذية وعندما بدأ يعطيني (تعليمات) عن أسهم لأستثمر بها أيقنت أنه علي الانسحاب فوراً من السوق. الآن، بعد عقد التسعينيات حيث الجميع شاركوا في كازينو الأسواق المالية وبعد أزمة 2008 التي كانت السبب المباشر لها الابتكارات المالية، هل يعقل أن لا يعلم رئيس جامعة أتي به لـ (تحديث) الجامعة وحل مشاكلها المالية ويقبض 650,000 دولار سنوياً، مدى خطورة هذه الاستثمارات؟!

منذ 1978 زادت أقساط الجامعات 12 مرة بينما في المقابل زادت كلفة المعيشة بنحو 3 مرات، وإذا علمنا أن الأجور في الولايات المتحدة حافظت بصعوبة على قيمتها الحقيقية، أي فقط لحقت بالتضخم، فمن هنا نرى أهمية ما طرحه بيرني ساندرز حول تعميم مجانية التعليم العالي الحكومي. لهذا يحبه الشباب الأمريكي ولهذا تكرهه الرأسمالية الأمريكية. وسيكرهه بعض الإداريين الجامعيين الذين تعودوا على أن يكونوا (مديرين تنفيذيين) يشرفون على (المشاريع الكبرى) داخل الجامعات مثل ملاعب ومراكز الرياضة والسكن الطلابي الفاره منشغلين بإرضاء الأغنياء من مجتمعاتهم. سيكرهونه لأنهم يعلمون أن المجانية ستأتي مع قطع أجنحتهم وخفض أجورهم وتحويل انتباههم إلى التعليم والأبحاث وإنتاج المعرفة والقطع مع الرأسمال، وهذا ما لا يريدونه ولا تريده الرأسمالية. ممتاز أن يطرح ذلك، وأن يحاوله ساندرز في إدارته إن وصل إلى البيت الأبيض، ولكن إنقاذ الجامعات ودورها التاريخي سيكون باشتراكية حقيقية تنهي الرأسمالية وانغماسييها ومتلازمي ستوكهولم والمعتدين على العلم وعلى آفاقه الواسعة، التي يجب ألا يحدّها لا دافع الربح ولا أنانية الافراد ولا جهل أنصاف المتعلمين الذين طفوا إلى السطح في إدارة التعليم في ظل انفلات الرأسمالية في العقود الثلاثة الماضية.

(الأخبار)

العدد 1104 - 24/4/2024