مازلنا نقرع جدار الخزان…

كان الدرس الذي سيعطيه (المعلم) لتلاميذه، هو أن يرسموا تفاحة أو موزة… ولكن، ماذا تعني التفاحة أو الموزة، لصِبْية لم يسبق لهم أن شاهدوهما!

وكان على (المعلم) غسان كنفاني، إبان ممارسته التعليم، في حياة مهنية له، في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في دمشق، أن ينحاز لما رآه، وسيرتبط بتحوله وانعطافته البليغة، وبثقة العارف الرائي، أمر بمحو الرسوم، وطلب من الأطفال أن يرسموا: المخيّم.

ومن دروب المخيم وناسه، وجراح الشوك والملح، والأغاني الجارحة، وإكليل شوك اللجوء، ومن المدى الشاسع والضّيق في آن، ومن حقول الجوع وجموح الأماني، ومن رعشة المأساة وندوبها في الأرواح، وانكسار المرايا في ازدحام التيه، وأسفار الأعمار القصيرة، من الخروج الملحمي، قسراً عن الأرض، من نزف سنبلة، ما عادت ترى القمر إلا شاحباً كوجه رغيف لا يبلّل شفاه جائع، ومن ضريبة عشق فادحة لمن لم يخسروا وطناً نهائياً.

كان قرار غسان كنفاني الحاسم: الذهاب إلى القضية ذاتها، وبذاتها، ليبدع الرسم بالكلمات والأفكار والرؤى، ليكون عن قصدٍ خطّ دفاع ذكي عنها، ليكتب عن فلسطين التي رآها أجمل أقمار المخيم، عن أطفالها الواقفين في باب النهار، ويذهب إلى أكوانه الإبداعية ليكتب قصته الأولى (شمس جديدة) حول طفل من غزة، وهو من رأى في فلسطين رمزاً إنسانياً متكاملاً، لنجدها باتت تمثّل العالم في روائعه التي عكست مع اضطراد الوعي والتجربة، وحضور ثقافة جذرية، تطور أساليبه الكتابية وتحديداً في مطلع الستينيات، لتتعالق بأبعادٍ أخاذةٍ في رسوماته الماتعة، حيث صهيلُ المأساة، وحبر الدم، وبعث التراث من موروث عربي خالص (لوحة عنترة) أي استدعاء البطولة، وعياً يفرضُ تجانس اللون والموضوع، لطالما أرّقته (العجوز المتكئ على راحة يده) ليصير صيغته في بناء أكوان الإبداع، ويلتقط ناسه من وراء الحكايات، يأخذ بيد (أم سعد) في قرى فلسطين ومدنها، أصبح اللون حرفاً، لا مسافة عاطفية فحسب ما بينه وبين شخصياته التي جاءته من الواقع ذاته، ولا حاجةهنا إلى الخيال المترف الذي محا تفاحة وموزة، لا حاجة إلى البحث عنهما آنذاك!

كتب عن الموت الكاشف عن الحياة، (عن الرجال والبنادق، العاشق وبرقوق نيسان، من قتل ليلى الحائك؟ موت السرير رقم 12 أرض البرتقال الحزين، رجال في الشمس، عالم ليس لنا، ما تبقى لكم)، ولعله كتب عن الإنسان الفلسطيني الجديد في المخيم الجديد، وشعور المنفي المغترب الذي لا يكف عن التطلع إلى الأمام، ولم يكتفِ غسان، وهو يمتع من عوالمه، فذهب مسرحياً إلى (الباب، والقبعة والنبي). تلك صيرورة عكستها مقالاته الثرية في (الهدف) التي أسّسها، انطلاقاً من رؤيته للحقيقة، فكان السياسي والأديب  والفدائي، باعث ثورة ثقافية، مكوناتها ذوبان المثقف العضوي (الغرامشي) في المقاتل، والمقاتل في الجماهير، يقول غسان: (نتعلّم من الجماهير ونعلّمها).

والمعلم في أدواره الجديدة، وفي صفاء رؤياه، أصبحت القضية جزءاً لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكدح، ونبض القلب، ليس بكثرة المدافعين، بل ببقائها جذوة لا تنطفئ، يلقّمها الشهيد ويعبر إلى مداه الأخضر.

قال غسان كلمته ومشى، بعد أن ألقى على سبات الدم حجارة الضوء النبيلة، حتى يكفّ ترويع العصافير الجياع، ويومئ للبراكين لتحفز الحقول، ليطلع نهار وتظله شمسه الجديدة تقرع للأبد جدار خزّاننا الفلسطيني، وهو يشعل قلبه يوم 8 تموز 1972 في بيروت، وقلب لميس فراشة الضوء، مازال وعد طفولة مازال يسري في أوصال المخيم، صهيلاً لفاكهة منتظرة، ما حدث أن كتب غسان ملحمته الكبرى، نشيداً للتراب، ودمه باب النهار، ما حدث أن الحكايات خرجت (مشكاة وزيتاً)، ليحار الموت من أي نافذة يجيء.

من غسان كنفاني إلى محمد أبو خضير…

لا وقت، للوقت…

الرصاصة مازالت تسبق السؤال، من يجرؤ على قتل فلسطين؟ والرصاصة ذاتها من بحثت عن صدر، كلمة، طفولة، مازلنا في زمن إرهاب أسود، ثمة جاهل يحقد على الكتابة، ثمة (مثقف) يرى في الخيانة وجهة نظر والمقاومة أفعال الهامشيين، إرهاب طليق يخاف الشفق الممكن في عروق الأمة، شفق يسبقُ العاصفة لتتأهب للانفجار، هي البلاد إذاً قاب قوسين من انتفاضة أولى حكاياتها الجديدة في شعفاط، في الخليل، في القدس، دم في الأرض، مطرٌ في السحاب، ولم يؤثر غسان أن يطوي رحلته باكراً، لكن قدر الروايات العظيمة أن تظلّ ملح التراب كما الشهداء بهاء تكوين الأرض، كما قادتهم الآتون بملامح النهار، والأرض تعود، كما عاد غسان ذلك النهار إلى عكا، وظلّ محمد أبو خضير في القدس، هي صيرورة أخرى، لتظل أحلام البلاد، كيمام المساجد ونواقيس الكنائس، انتسابٌ إلى برق النهر، لا دمعةً تطيل الإقامة، ولا يأساً يصبح هوّية، هي الشمس ونسمّيها، هي دمنا الممهور عشقاً، رغم ألف ترحال، ونفي، شمسٌ لا تموت..

كان غسان، بضعة رجال، في قامة ناحلة، أنجز في سنوات قليلة ما عجز عن إنجازه كثيرون، قال عنه الراحل محمود درويش: (كان غزالاً جاء يبشّر بزلزال).

ويوم ذاك تساءل البعض: (لماذا كل هذا الديناميت لرجل وفتاة فلسطينيين؟! لكن الإجابة الحاسمة، وبمنتهى الوضوح، لأن العدو أدرك أن رجالاً يعيشون في قلب غسان وروحه.. وأنه رمز شعب).

فهو أول من تحدث عن ظاهرة الأدب الصهيوني، قبل هزيمة حزيران، قال غسان كنفاني: (إن الصهيونية تضبط خطواتها في جميع الاتجاهات على إيقاع واحد…). وهو أول من قدم لأصوات المقاومة داخل فلسطين، لشعرائها المقاومين وأدبائها الكبار..

حرض على الأسئلة الأشد، الأكثر عمقاً، صوب المصير، وفي البدء صرخ أبو الخيزران سائق الشاحنة في روايته / العلامة/ (رجال تحت الشمس): لماذا لم تدقوا جدران الخزان!

والدرس النقدي، الذي سعى ليقارب ما أنجزه غسان كنفاني قصصياً وروائياً ومسرحياً، وبحثياً، وصحافياً، كان له في الكثير مما بحث ألا يكتفي بنبل الموضوع ، لأنه لم يكتشف جديداً فيه، كان أشبه في مغامراته المعرفية، بكتابات موسمية تغلب عليها الرثائية، ما خلا الكتب والكتابات النقدية الجادة، المقارنة، التي تخففت من الشروح على هوامش أعماله، وذهبت بقصد المعرفة والأسئلة المنتجة إلى اجتهادات لافتة، في محاولات الكشف عن أهم ما يميز غسان كنفاني في تطوره الروائي في ضوء تطور القضية الفلسطينية، فضلاً عن تطور الكاتب فنياً، على إيقاع واقع سياسي، واجتماعي يضطرم من حوله بالأحداث..

ربما يستخلص ذلك من جدلية العلاقة بين غسان كنفاني والنقد، النقد الذي رأى فيه علامة في الرواية الفلسطينية والعربية، خارج طقوس الاحتفاء أو الغياب، ومقاوماً بفعل إنساني استقرأ الواقع، فأعاد إنتاجه برؤية، مازلنا لأيامنا هذه نقاربها، ونسقطها على الواقع، لنقف على جدلياته ومفرداته التي رآها غسان في زمن ما، وكأنها تعيد إنتاج ذاتها، في سياقات مختلفة، ومتون أخرى، فهو الرائي، المخترق لزمنه، إذ إن درس جبرا إبراهيم جبرا، ورضوى عاشور، وفيصل دراج، وسامي سويدان، ويوسف سامي اليوسف، وأفنان القاسم، ود.إحسان عباس وسواهم… النقدي الذي استشرف آفاق منجز غسان، مازال يشي بعتباته التأسيسية للدخول في عوالم غسان كنفاني الأثيرة: الواقع، والرمز، والموقف، والتحريض باتجاه انتزاع (الوضع الفلسطيني) أو الحالة من الموت، والتبشير بالثقافة الوطنية على أسس علمية.

على الدوام، كان الشهيد غسان كنفاني يقول: لا ندعو إلى التسيب باسم الحرية المزيفة، أو فتح أبواب الغزو الإعلامي للعدو على مصراعيه، أو شد أزره بحربه النفسية ضد جماهيرنا، وترك الحقن اليومية لفرض ثقافة الاستسلام والاستخذاء تنغرس في أدمغة شعبنا دون حساب…

ذلك الذي حمل فلسطينيته كما حمل السيد المسيح صليبه، وزرعها شجراً وشمساً ورجالاً، وستظّل الأسئلة: من سيكون غسان؟ ما الهدف من قتل غسان وبماذا يصرخ دمه؟! والناجز منها: إنها القضية التي لا تتبدل، وإن كثر المدافعون الفاشلون عنها، بعضهم، أو جلّهم، وبقي هو تحت الشمس، ليكتب في زمن مضى إهداء بليغاً، ومماحكاً وساخراً لروايته (رجال في الشمس) إلى الناقد الفلسطيني الكبير د.إحسان عباس: (بالرغم من أن هذه الرواية لا تتعلق بالأندلس)!

غسان بقلم غسان

ومقابسة مع غسان كنفاني (في برقوق نيسان)، فإن لسان حالنا يقول: (عندما جاء تموز، أخذت الأرض تتضرج بزهر البرقوق الأحمر، وكأنها بدن رجل شاسع مثقب بالرصاص، كان الحزن، وكان الفرح المختبئ فيه مثلما تكون الولادة ويكون الألم).

غسان كنفاني، يبدو الآن بعيداً كأنه لم يكن طوال العمر إلا واحداً من هذه الأحلام العظيمة التي تظل مع المرء وكأنها جزء منه، وترافقه إلى الفناء، دون أن توجد حقاً، ومع ذلك فإنها قادرة على أن تكون مثل حقيقة ما، يفتقدها المرء من حين إلى آخر، ويشعر في لحظة أو أخرى ملمسها، وكأنها فرّت للتو من بين راحتيه.

العدد 1105 - 01/5/2024