في ذكرى اغتيال الكاتب والمناضل الكبير غسان كنفاني.. لماذا يبقى غسان كنفاني بهذا الحضور رغم مرور اثنين وأربعين عاماً على استشهاده؟

هو من مواليد مدينة عكا الفلسطينية عام 1936 جرى اغتياله على يد جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) في 8 تموز 1972 عندما كان عمره 36 عاماً، بتفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت، كتب بشكل أساسي في مواضيع التحرر الفلسطيني، وهو عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

أُجبر وعائلته على النزوح في عام 1948 فعاش في سورية لاجئاً فلسطينياً، ثم في لبنان حيث حصل على الجنسية اللبنانية، أكمل دراسته الثانوية في دمشق وحصل على شهادة البكالوريا السورية عام 1952 وفي العام ذاته سجل في كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية في جامعة دمشق ولكنه انقطع عن الدراسة في نهاية السنة الثانية وانضم إلى حركة القوميين العرب التي ضمه إليها المناضل الفلسطيني جورج حبش عند لقائهما عام 1953.

ذهب إلى الكويت حيث عمل في التعليم، ثم انتقل إلى بيروت للعمل في مجلة الحرية (1961) التي كانت تنطق باسم الحركة مسؤولاً عن القسم الثقافي فيها، ثم أصبح رئيس تحرير جريدة (المحرر) اللبنانية وأصدر فيها (ملحق فلسطين)، ثم انتقل للعمل في جريدة الأنوار اللبنانية، وحين تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 قام بتأسيس مجلة ناطقة باسمها حملت اسم مجلة (الهدف) ترأس غسان تحريرها، كما أصبح ناطقاً رسمياً باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

تزوج من سيدة دانماركية (آن) ورزق منها ولدان هما فايز وليلى. ترجمت معظم أعمال غسان الأدبية إلى سبع عشرة لغة نشرت في أكثر من 20 بلداً، وتم إخراج بعضها في أعمال مسرحية وبرامج إذاعية في بلدان عربية وأجنبية عدة، اثنتان من رواياته تحولتا إلى فيلمين سينمائيين، وما زالت أعماله الأدبية التي كتبها بين عامي 1956 و1972 تحظى حتى اليوم بأهمية متزايدة على الرغم من أن روايات غسان وقصصه القصيرة ومعظم أعماله الأدبية الأخرى قد كتبت في إطار قضية فلسطين وشعبها، فإن مواهبه الأدبية الفريدة أعطتها جاذبية عالمية شاملة.

كتب الكثير من القصص التي كان أبطالها من الأطفال، وكثيراً ما كان يردد: (الأطفال هم مستقبلنا)، نُشرت مجموعة من قصصه القصيرة في بيروت عام 1978 تحت عنوان (أطفال غسان كنفاني) نشرت الترجمة الإنكليزية لها في عام 1984 وكانت بعنوان (أطفال فلسطين).

كان دافعه إلى الكتابة شعوره الخانق بالعار والسخط الممزوج بالعجز، وقد ظهرت هذه المعاني في بداياته في رواياته (أرض البرتقال الحزين) و(موت سرير رقم 12) و(رجال في الشمس)؛ ثم عالج النكبة الفلسطينية داخل إطار اجتماعي في (ما تبقى لكم) ليعود ويستكشف الواقع مع (أم سعد) التي أعادت إليه الإيمان بالثورة، وبالقدرة الهائلة لأبناء الطبقات المسحوقة على المعرفة الفطرية بعدوهم في الداخل والخارج على حدّ سواء.

كانت تلك الأعمال ترصد حياة الفلسطينيين في الخارج، وانتقل بعد ذلك إلى رصد الداخل، فمع متواليته السردية (عن الرجال والبنادق) أعاد طرح أسئلة المقاومة الأساسية والهوية في إطار فني جديد جعل الرواية قصصاً قصيرة منفصلةً ومتصلةً في الوقت نفسه.

داخل تلك الروايات كانت شخصياته غارقةً في الحوار مع الذّات، وكأنّه أراد أنْ يقول إنّ على الفلسطيني أن يسائل نفسه قبل الآخرين، ليصل بها إلى المواجهة الكبرى مع العدو، التي سيديرها في (عائد إلى حيفا).

ولكنفاني السبق لأوّل مرة في الأدب العربي في إظهار اليهودي ضحية للصهيونية لا إنساناً مشوّهاً، أو صورة كاريكاتيرية، كما فعلت الكتابات الإيديولوجية.

وهو أوّل من دعا (فتح) آن ظهورها في البدايات إلى النقاش، يومذاك كتب مقالاً بعنوان (فتح مدعوّة للنقاش) متسائلاً عن هوية المشروع الوطني الفلسطيني وعلاقته بالخط القومي، وعن الثورة، وجاء الردّ منها في كرّاسها الأوّل (فتح تبدأ النقاش) مجيبةً عن الأسئلة التي أثارها ؛ وهو أيضاً أبرز من تساءل عمّا يكتبه الصهاينة، وكتابه (في الأدب الصهيوني) هو الأول عربياً في هذا الباب، تتبّع فيه المشروع الصهيوني منذ كان فكرةً حتى أضحى احتلالاً استعمارياً، وهو إلى ذلك، أوّل من كتب عن (شعراء الأرض المحتلة) فأحدث رجّة في الشعر العربي الحديث، وأوّل من نشر رسوم الشهيد ناجي العلي الكاريكاتورية.

كان غسان كنفاني من الذين يتقنون العمل في أكثر من مهمّة وعلى أكثر من جبهة في وقتٍ واحد، إذ مارس الصحافة ومختلف أنواع الأدب، إضافة إلى نشاطه السياسي في المقاومة الفلسطينية.

كثيرة هي المقالات والكتب التي تناولت غسان كنفاني القاصّ والروائي والباحث غير أن القليل منها سلّط الأضواء على غسان كنفاني السياسي والإعلامي؟ رغم أن هذا الدور هو الأهم في حياة غسان ولعله أبرز دوافع جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) لاغتياله.

كان غسان يعتبر العمل الصحفي سلاحاً يومياً من أسلحة المعركة، ولقد بدأ الكتابة الصحفية في مجلة (الرأي) التي أصدرتها مجموعة من أفراد حركة القوميين العرب في دمشق، وبعد أن انتقل إلى الكويت عمل في مجلة (الفجر) الأسبوعية التي كانت تصدرها تنظيمات حركة القوميين العرب والنادي الثقافي القومي في الكويت.

عمل غسان كنفاني على تطوير فاعلية الإعلام الفلسطيني بشكل عام وإعلام الجبهة بشكل خاص، وقد عزز موقعه السياسي في الجبهة موقعه الإعلامي، فقد أصبح الناطق الرسمي باسمها ومسؤولاً عن نشاطها الإعلامي، أما على صعيد الإعلام الخارجي فيقول غسان في موقع آخر: (إن عملنا الإعلامي في الغرب يجب أن يستند على الأصدقاء، على الحركات الثورية في البورجوازيات الغربية، ولا يمكن أن يتكون رأي عام عالمي يقف إلى جانبنا دون جهد هذه القوى اليسارية وتبنيها للقضية، وبوسع هؤلاء الأصدقاء أن يقرروا عند ذاك على ضوء الواقع الذي يعيشونه في المكان والزمان الأشكال الأفضل للمعركة الإعلامية).

ومنذ تولى غسان رئاسة تحرير مجلة (الهدف) البيروتية حولها إلى منبر للإعلام الثوري ينادي بالوحدة الوطنية ونبذ كل مشاريع التسوية والاستسلام، ودعا لتوحيد العمل السياسي والثوري والعسكري الفلسطيني، ولقد واكبت المجلة الأيام الجسام التي عاشتها الثورة الفلسطينية، فصدرت في أحداث أيلول الدامية عام 1970 يومياً لمدة تسعة أيام.

رفع غسان شعار ( كل الحقيقة للجماهير) واختاره عنواناً للمجلة، وقد اختزل هذا الشعار رؤية سياسية وإيديولوجية كاملة، وكان غسان الإعلامي والسياسي يؤمن أن لا إمكانية للانتصار دون إطلاق فاعلية الجماهير، وذلك لا يكون إلا عبر الثقة بها وإعطائها حقوقها ومن ذلك حق الكلمة، أحد الأركان الأساسية للديمقراطية. تعرض غسان بسبب كتابة بعض الافتتاحيات للسجن، وعرّض مجلته للمحاكمة عدة مرات، سجن في 17 تشرين الثاني 1972 بتهمة القدح والذم والإساءة إلى ملكين عربيين، وكان يوقع مقالاته في (الهدف) بأسماء عديدة إلى جانب اسمه الحقيقي ومنها (غ.ك)، (فارس ـ فارس)، (…) ثلاثة نقط بين قوسين أو إشارة خاصة عبارة عن مجموعة من الدوائر المتداخلة.

في صباح الثامن من شهر تموز 1972 قتل غسان كنفاني على أيدي الموساد الإسرائيلي، عندما انفجرت قنبلة ومعها خمسة كيلوغرامات من الديناميت في سيارته أودت بحياته وحياة ابنة شقيقته (لميس) التي كانت برفقته. تقول زوجته ورفيقة نضاله السيدة آني: (… بعد دقيقتين من مغادرة غسان ولميس – ابنة أخته – سمعنا انفجاراً رهيباً تحطمت بسببه كل نوافذ البيت.. نزلتُ السلم راكضة لكي أجد البقايا المحترقة لسيارته، وجدنا لميس على بعد بضعة أمتار ولم نجد غسان ناديت عليه ! ثم اكتشفت ساقه اليسرى.. وقفت بلا حراك..). وقد وجد المحققون إلى جانب السيارة المنسوفة ورقة تقول: (مع تحيات سفارة إسرائيل في كوبنهاغن).

أخيراً؛ يمكن القول إنّ غسان كنفاني تميز بتفكيره الثوري ونضاله في سبيل وطنه المغتصب، وجسد مأساة شعبه في أعمال إبداعية متنوعة صور فيها محنته وتشرده وصموده، وهو مناضل ومفكر وإعلامي وفنان على درجة عالية من الوعي بوسائله الفنية، وكان في حياته ومماته شاهداً وشهيداً على أن (الكلمة الرصاصة).. (الكلمة المقاتلة) هي أمضى من السلاح.

العدد 1104 - 24/4/2024