قراءة في «نساء أمام طبيعة نهرية» للكاتب الألماني هاينريش بول

قدم المركز الثقافي الألماني في دمشق (معهد غوته) قراءة في رواية (نساء أمام طبيعة نهرية)، للكاتب الألماني المعروف هاينريش بول، الحائز عام 1972 على جائزة نوبل للآداب ألقاها د. صلاح حاتم أستاذ اللغة الألمانية والمحاضر في كلية الآداب بجامعة تشرين، هو الذي ترجم الرواية إلى العربية.

في آب 1985 وبعد موت بول بشهر واحد صدرت آخر أعماله الأدبية بعنوان (نساء أمام طبيعة نهرية). ووصف هذا العمل أنه (رواية في حوارات ومونولوجات). فهذه الرواية أبصرت النور قبل أن تكتمل. وفيها وصف لأيام قليلة في (بون)، مركز السلطة السياسي، حيث يقام أثناء ذلك قداس لعناصر الأمن، في ذكرى أحد أصحاب المناصب القيادية العليا والإطاحة بوزير وتنصيب آخر، بول لم يُرد أن يصور السياسة اليومية في العاصمة بون، بل كان يريد أن يلمح إلى أحداث لها علاقتها بالتاريخ المعاصر من حيث الاستمرار في النقد الاجتماعي والثقافي، ونقد الكنيسة الذي مارسه في مؤلفاته السابقة.

مسرح أحداث الرواية أحد أحياء مدينة بون الراقية بالقرب من نهر الراين في بداية الثمانينيات، ويظهر فيه أن النخبة الحاكمة تتباين فيما بينها، فهناك المسيطر والحاكم، أي الصناعيون الاحتكاريون ذوو النفوذ من جهة، والسياسيون من جهة أخرى.

فأرباب الصناعة، وكبار الأغنياء خرجوا من الحرب من دون أن يلحقهم ضرر، وباتوا يمسكون بأيديهم زمام الأمور وما الحاكمون إلا (عرائس) في مسرحهم، والآخرون بمواقعهم ليسوا إلا زخرفاً، مثل الأسقف والجنرال وغيرهم. والموضوعات الأساسية التي تتخلل الحوارات هي حضور الماضي في ذاكرة الشخوص الروائية، على شكل تورط نازي لرجال ذوي نفوذ، وسلطة الرأسمال التي لا يمكن التحكم بها، والكنيسة الرسمية الكاثوليكية التي انحطت إلى مجرد زخرف.

وقد أبرز المحاضر الشخصيات التي ساهمت في أحداث من التاريخ الألماني من خلال مواقعها والأحداث المختلفة التي واجهتها.

وماذا عن سلطة المال؟التي لايمكن التحكم بها؟

يرى بول في المال دلالة على الاغتراب، فالذهب على سبيل المثال لا يدل في (نساء أمام طبيعة نهرية). على شيء جميل ونفيس. بل على ذهب أسنان القتلى في معسكرات الاعتقال، وهذا يضمّنه معنى سلبياً مثله مثل المال. فزوجة المصرفي لم تحتمل أن ترى المال، وكانت تفكر بصورة دائمة بذهب أسنان المقتولين، وابنة المصرفي هيلدا التي تحمل دكتوراه في العلوم الزراعية والاقتصاد لم يستهوها مال أبيها، ولا العيش في ألمانيا، فتقرر الرحيل إلى نيكاراغوا. وقد توصلت بعد دراسة وتفكير إلى الاقتناع بأن الموت في نيكاراغوا أفضل من العيش في ألمانيا.

كثير من الأقوال المشابهة دليل على الملل  إشارة إلى الجو السياسي بما فيه من ركود وجمود ومواقف لا مخرج منها، الأمر الذي يطابق الحالة العامة النفسية والجسدية للثمانينيات التي سببها ضياع القيم والشعور بالتهديدات الذرية والبيئية. وعن موضوع الحياة الخاصة العاطفية والزوجية للشخصيات الرواية أشار د. حاتم: (يدخل في هذا الموضوع حياة الشراكة الملزمة دون موافقة حكومية أو كنسية.. العلاقات الزوجية من حيث ارتباطها برابط ديني قائمة إلا أنها غير مستمرة، فتحل محلها علاقة غير مسوغة شرعاً. بول لايدين مثل هذه العلاقات كما أنه لا يضع الحب والزواج على قدم المساواة. إذ إن الزوجين كما يرى هو قد يعيشان خمسين عاماً تحت مظلة الحب، وقد يتنهي الحب بعد عام واحد من الزواج، ولا تبقى إلا صورة الزواج الرسمية بصيغتها المؤسساتية، فالنساء في مسرح (نساء أمام طبيعة نهرية)، ينبغي ألا يرين بل أن يُرين، فزوجات السياسيين يتمتعن بوظائف ذات مظهر مهيب.. وفي الوقت نفسه هن أيضاً زخارف للأزواج (أي مكملات زينة)، ويلاحظ أن للمرأة دوراً كبيراً في روايات بول، فهي لها موقفها ومهامها وتجاوزها الكثير من موبقات المجتمع الرأسمالي حتى الخادمة. فهو يصور النساء وهن يقفن أمام النهر، وفي ذلك عودة إلى الطبيعة. (أنا من الطبيعة وسأعود إليها ولا ملاذ آخر). فالنهر شاهد على العصر.. وصف بول بأنه كاتب الناس البسطاء، الناس الصغار، فهو لم يجد العظمة إلا لدى هؤلاء.

الجانب المعروض من المشهد البوني (نسبة إلى بون) يظهر الأشخاص في موقف متأزم عصيب سببه الشعور بالغربة في هذا العالم، وشعور الإنسان بانعدام الوطن في بلده وفي وسط أسرته. فالألفة معدومة فلا إلفة مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع البيئة، وينتظر الألمان ارتباطاً  لكنهم لا يجدون إلا مجتمعاً لا ثقة فيه ،والمجتمع لا يعني دائماً الارتباط وليس محض مصادفة أن الألمان يسافرون كثيراً باحثين في مكان ما عما هو إنساني واجتماعي، ويعجبون بالحياة اليومية للبلدان الأخرى، ويتساءل بول: متى ينعدم الإحساس بالوطن؟ ويجيب: حين ينعدم ما هو إنساني واجتماعي، فالشيء الإنساني والاجتماعي محال من دون وطن.

هل ينطوي اسم الوطن على ما يسمى الجيرة والألفة، فالجيرة لم توصف في أي موضع بأنها شيء مستمر، شيء يوحي بالثقة.

ومتى يحس الإنسان بالحنين؟ إذا كان البلد مسكوناً أو كان السكن فيه ممكناً، ما الذي يدفع إلى الانتحار والرحيل؟

أم كارل فون كرايل لم تتحمل وجوه الذين خرجوا لتوهم من السجن، وأصبحوا يمسكون زمام الأمور، فدفعت بنفسها إلى نهر الراين الذي جذبها أكثر مما جذبتها ألمانيا بعد الحرب، حتى ابنها كارل يفكر بالغرق في نهر الراين، لولا أن هناك نبالة جديدة اسمها البروليتاريا، وغروبش يمثلها وأحد الذين يحولون بين كارل وبين نزوله إلى نهرب الراين للانتحار غرقاً. زوجة كارل تفكر بالانتحار غرقاً. وتجد التعبير: المشي في الراين جميل. وتتحدث بينها وبين نفسها قائلة: ربما أقوم أنا بهذا أيضاً ذات يوم، لأني سئمت الحياة فأنا لم أملّها إلا أنه لا بد أن يكون جميلاً تحت، أن تتجول في الوحل الأخضر عبر التاريخ، فالراين في نظر الجميع مغرٍ.

بول يهيب بالسياسيين والأدباء أن يتساءلوا لماذا لا يوجد هناك رواية واحدة من روايات أدب ما بعد الحرب لا تجد فيها ألمانيا نفسها، وقد تم تصويرها بلداً مزدهراً طيباً.

فالسؤال المشهور: أين الإيجابي؟ ليس بسؤال غبي إلى هذا الحد، ولم يطرح على نحو خاطئ، بل وُجّه إلى الزائفين غير المخلصين. ما السبب في أنه ما من أحد كتب رواية مرحة عن هذا البلد المزدهر؟ ما من مانع يحول دون ذلك. الظاهر أن هنالك عوائق ترجع إلى أعمق مما يظنه الاستياء السياسي السطحي، بلد حزين من دون حزن.

العدد 1105 - 01/5/2024