فشل المحاولات السابقة يحتم دوراً للدولة في التصدير

يعدّ قهر الفلاح والصناعي السوري إضافة إلى الحرفيين، جريمة اقتصادية، عملاً أدى إلى إفراغ العمل الاقتصادي من كل مضامينه، وميزاته. وتمكنت الحكومات المتعاقبة من توجيه الضربات القاسية، للمنتجين، إذ إنها شجعت على الإنتاج، ولكنها نفضت يديها من التسويق.

المشكلة بالدرجة الأولى إنتاجية، جذر القضية التسويقية، يعود إلى الإنتاج. وهذا ليس تقليلاً من أهمية التسويق، لكنها النتيجة الحتمية، فالتخطيط السيئ والخاطئ والمنعزل عن الواقع، يؤدي إلى نتائج كهذه كارثية. ماذا سنفعل بأكثر من مليون طن حمضيات؟ هو سؤال يختزل الغياب الفعلي للتخطيط الاقتصادي، والزراعي منه حتماً. الحل في الكلام عينه، الذي سمعناه على مدى ثلاثة عقود من الحكومات السورية، بإقامة معمل للعصائر، لن نصدق حتى نرى المعمل ينتج. وبالمسطرة ذاتها يمكن القياس على محاصيل البندورة والزيتون، والشوندر السكري.. إلخ.

سعت الحكومات السابقة، إلى عزل الصناعة والزراعة، وتهميش العاملين فيهما، وعدم تلبية الاحتياجات الأساسية لتطوير جناحي الاقتصاد الوطني، وإغفال أي مساهمة علمية جادة في هذين القطاعين اللذين يشكلان رافعة متينة، ودعامة أساسية للاقتصاد. لا أبحاث علمية تستطيع معالجة مشكلة القطن الذي يستهلك المياه بلا جدوى اقتصادية، إذ إنه يباع محلوجاً، وفي أحيان قليلة غزول، فيما التصنيع هو الحلقة المهمة التي تشكل فيه قيمة مضافة، تقدرها بعض الدراسات بنحو 12 ضعفاً. لم نر سوى رغبات غير جادة في سبيل معالجة مشكلتي القطاع الصناعي، اليد العاملة، والاستبدال والتجديد لآلات تنتج ما لا يروق للزبون. ظلت التكاليف المرتفعة، حاجزاً أمام قطاع يوصف بأنه رائد، فيما الواقع يعبر تعبيراً أصدق يتمثل بأنه القطاع المتهالك، الذي لم يترك له مصاصو الدماء، من مديرين ومن لف لفيفهم، سوى بقايا مبعثرة.

تميز الإنتاج السوري بالعموم، بقدرات تنافسية محدودة، وهذا ناتج سياسات اقتصادية حمائية، لكن عقب عشر سنوات من الانفتاح الفعلي، 2000 إلى ،2010 وسبقها عشرة أعوام تحضيرات من 1991 حتى ،2000 لم يتغير ما يمكن اعتباره يستحق التوقف عنده. بل حمي وطيس معارك اقتصادية علنية لتصفية القطاع العام، الممول الحقيقي لخزينة الدولة، واستهداف القطاع الزراعي، في معركة تتطلب نتائجها، تعليق أعواد مشانق، لمن ساهم في التخطيط لها وتنفيذها.

لاحظوا كيف تُقتل الميزات الإنتاجية، لدينا بيئة يمكن من خلالها تحقيق إنتاج متنوع، وبكلف قليلة، إلا أن جهابذة التخطيط الاقتصادي، حرفوا المسار. هل نتذكر زراعة الموز في سورية؟ من يتجرأ على زراعة صنف لا تتوفر مقومات إنتاجه؟ هذا لا يحدث إلا في البلاد التي لا تريد حكوماتها الخير لاقتصادها. كانت سورية تستورد السكر الأبيض، بأقل من تكلفة إنتاج الشوندر السكري، وفي محاولة وهمية لدعم الفلاح، أُسست معامل لتصنيع السكر، بلا جدوى اقتصادية. هذا ليس دعماً للفلاح، إنه تخطيط مبرمج لوضعه في عنق الزجاجة، إذ عندما حانت ساعة الحقيقة، تخلت الحكومة عن مزارعي هذا الصنف. حققت البلاد إنتاجاً في الدواجن، وفي الزيتون واللوز والحمضيات، وعدد محدود من الخضار والفواكه، فماذا فعلت الجهات المعنية لدعم هذا الإنتاج؟ لا شيء يستحق الذكر، لا توجد مؤسسات معنية قادرة على التسويق، وآفاق التصدير المفتوحة تكاد تكون مغلقة. يملك المنتج المحلي أهم ميزة تنافسية وهي رخص ثمنه، ومع ذلك لا أحد يستقبل منتجاتنا، لعيوب نعلمها، ويمكن تجاوزها ببساطة، تتعلق بأساليب التسويق.

حتى الآن، اكتفت هيئة تنمية وترويج الصادرات التي غيّر اسمها وزير الاقتصاد السابق همام الجزائري، إلى هيئة دعم وتنمية الإنتاج المحلي والصادرات، اكتفت بالدراسات، وتقديم المؤشرات. هي تقرأ الأسواق الخارجية بلغة أكاديمية، تبتعد عن الواقع. هذا المشروع الذي انطلق عام ،2009 كان منتظراً منه أن ينقل قضية التصدير من الظل إلى العلن، ويروج لعدد من المنتجات السورية التي يمكن أن تنافس في الأسواق الخارجية. لكن لا أثر له حالياً، خطف اتحاد المصدرين السوري الأضواء منه، وأزاح الهيئة عن الساحة. مؤسسة مهمة كهذه، وضعت أمامها مجمل التحديات الكفيلة بتوقفها عن العمل، والاكتفاء على قيد الحياة. كذا قرية الصادرات التي انطلقت منذ أكثر من عام، مازالت قرية على الورق، تتنازع الاتهامات مع اتحاد المصدرين. 

لابد من العودة الآن، إلى دور يمكن أن تلعبه الدولة، في التصدير، وفي التسويق، ولديها من الإمكانات، والظروف الموضوعية، لإثبات النجاح. وأن تفعل ذلك من منطلق اقتصادي، وليس من باب الوقوف التقليدي إلى جانب المنتجين، الذين اعتادت على معاملتهم كفقراء، يجب الحفاظ عليهم، دون السعي لنقلهم إلى حياة أفضل. وزير التجارة الداخلية يؤكد أن الدولة ستشتري كامل محصول التفاح، هذا مؤشر جيد يمكن البناء عليه.

إن النجاح الوحيد الذي حققناه في السنوات السابقة في مجال التصدير، هو تصدير الخبرات واليد العاملة الماهرة والعقول النيرة. إذاً لنستفد من هذه التجربة المريرة، ونصدّر منتجاتنا الأخرى، التي لا نريد غزو العالم بها، إنما لدعم مواطننا واقتصادنا، ومن خلال دور رعائي للدولة. 

العدد 1105 - 01/5/2024