قوة مجلس الوزراء في محاسبة قيادات الصف الأول

 ألزمت حكومة عماد خميس نفسها، استجابة لمطلب شعبي سابق، على غاية من الأهمية والضرورة الملحة، بمقاربة طموح الشارع، وملامسة مشاعره؛ إذ قدمت وعداً، سيغيّر مجرى التعاطي الرسمي مع الفاسدين من قيادات الصف الأول. فالحكومة- في اجتماعها المنعقد في الأول من الشهر الجاري: (أكدت على عدم الاكتفاء بإعفاء الإدارات العامة، وضرورة متابعة ملفاتها من قبل لجنة تحقيق مختصة)- انتهى الاقتباس.

 العبارات واضحة، والجمل لا تحتاج إلى تأويل وتفسير، والموقف جليّ كالضوء. السؤال: هل بدأت الحكومة، عبر قرارات التغيير التي صدرت مؤخراً، بمحاسبة من غمزت الصحافة أو الهيئات الرقابية من قناتهم؟ هذه الخطوة الحكومية الأولى تحتاج إلى استكمال لاحقاً، بإعلان النتائج، أو إلى ماذا أفضت التحقيقات؟ وما هي التُّهم الموجهة ضد الذين ارتكبوا الفساد؟ بل وأكثر من ذلك، أن تستهدف الإجراءات، كل الذين أشاعوا مناخات الإحباط في مؤسساتهم، ووجدوا في الأزمة الراهنة وهذه الحرب الطاحنة، شمّاعة لتأجيل العمل، وعدم اتخاذ القرارات، دون تصفية حسابات.

تقف اللجنة المذكورة أمام مفترق طرق، فإما أن يكون حالها كغيرها من اللجان، الهدف منها مجرد تشكيلها، والحديث عن ضرورتها، والرغبة العارمة في العمل. أو أنها لجنة حقيقية، تمتلك صلاحيات غير تقليدية، ضمن إطار القانون، وتفتح ملفات يتوق السوريون لمعرفة مصيرها، وفكّ شيفرتها، ومحاسبة عرّابيها. للوهلة الأولى يبدو أن التفسير الأول هو سيد الموقف، وسيبقى كذلك، لغاية أن تخرج الحكومة علناً، وتضع الحصيلة الأولية لعمل هذه اللجنة أمام الناس. لكن لابد أن تعلم الحكومة أن السيل بلغ الزبى، لدى الشارع السوري، وطفح كيله من الانتظار، ولم يعد يصغي للوعود، ولا تهمّه الدراسات والخطط التي تتحدث عنها، مادامت غير مقرونة بالعمل. وهذه اللجنة قد تعيد بناء الثقة بين الحكومة والمواطن، وترسم علاقة قوية، مغايرة للسائد، وتعيد الاعتبار للعمل الحكومي المصاب بالترهل. كما أنها تعكس مدى قوة مؤسسة مجلس الوزراء، أو أنها تبيّن بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذه المؤسسة ستحافظ على حياديتها، وأنها مصرّة على اتباع أسلوب عدم الاقتراب من الملفات الساخنة والمصيرية.

قوة هذه المؤسسة، ينطبق عليه المأثور الشعبي: (الفرَسُ من الفارس)، إذ لن يمنح أحد صلاحية للمجلس المذكور، مادام هو غير راغب بذلك، وما دام لا يملك جرأة أن يكون قوياً فعلاً. ما يقلب الموازين التقليدية، ويعطي دفعاً جديداً للعمل الحكومي، ويحظى باحترام الشارع الوطني، أن تكون اللجنة المذكورة مختلفة الأداء والعمل. لا نريد من هذه اللجنة، عملاً وسياقاً تاريخياً، يشبه لجنة يعرفها السوريون بمزيد من التندر: لجنة من أين لك هذا؟ التي وئدت في مهدها، وكانت رغبة يتوق إليها الشارع، لم يسمح المسؤولون بتطبيقها، وعطّلوا عملها.

إن وجود لجنة من هذا القبيل يثير ارتياح الشارع المتعطّش لمحاسبة مَن أساء لماله العام، ومَن عمل ضد مصلحته الوطنية، ومن عرقل قضاياه الملحة، ومن كسب بشكل غير مشروع، ومن تطاول على المال العام، ومن استغل المنصب، والقائمة تطول.

في المقلب الأخرى، إن وجود هذه اللجنة، يؤكد مدى عجز الجهات الرقابية عن القيام بدورها، ويخلق الأسباب الموضوعية لإعادة هيكلتها. هذه المؤسسات العاجزة، والعجوز في آن، تحتاج إلى اصلاح جذري، ورفع يد السلطة التنفيذية عنها. وعلى سبيل المثال، رفضت الحكومة السابقة نشر تقارير جديدة للجهاز المركزي للرقابة المالية، بعد ما أحدثه التقرير المهم المنشور عام ،2013 بعد غياب 19 عاماً عن النشر. هذه المحاولة اليتيمة، استقبلتها الحكومة السابقة بالرفض والانزعاج، بدليل أنها رفضت فيما بعد نشر التقارير الدورية للجهاز.

وفي الوقت عينه، تخلق هذه اللجنة مناخات ايجابية في سبيل مكافحة الفساد، وتجعل كل قيادات الصف الأول تحت عين الرقابة. لا معنى أن تكون السلطة التنفيذية بمختلف درجاتها ومستوياتها، خارج المحاسبة، هذا أكبر تهديد للعمل العام، وتعميق شعور اللامبالاة لدى عدد كبير من كبار المسؤولين.

السؤال الآن: إذا كانت ها هي ذي رغبة الحكومة المُلزمة لنفسها، فماذا ستفعل مع من ثبت أنهم عملوا ضد الاقتصاد الوطني، وكوفئوا بمناصب أعلى؟ طبعاً لن تكون لهذه اللجنة المختصة صلاحيات تطول هؤلاء، الذين بنوا أمجادهم على حساب مصالح الناس، و هم على ثقة أنهم الآن خارج حسابات الرقابة والمحاسبة. هذا هو السياق الاعتيادي، فهل تفاجئنا حكومة خميس، وتكسر المحظور، وتبدأ برؤوس تعدّ نفسها كبيرة؟

العدد 1105 - 01/5/2024